الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح المغيث شرح ألفية الحديث ***
225- شَرُّ الضَّعِيفِ الْخَبَرُ الْمَوْضُوعُ *** الْكَذِبُ الْمُخْتَلَقُ الْمَصْنُوعُ 226- وَكَيْفَ كَانَ لَمْ يُجِيزُوا ذِكْرَهْ *** لِمَنْ عَلِمْ مَا لَمْ يُبَيِّنْ أَمْرَهْ 227- وَأَكْثَرَ الْجَامِعُ فِيهِ إِذْ خَرَجْ *** لِمُطْلَقِ الضَّعْفِ عَنَى أَبَا الْفَرَجْ 228- وَالْوَاضِعُونَ لِلْحَدِيثِ أَضْرُبٌ *** أَضَرُّهُمْ قَوْمٌ لِزُهْدٍ نُسِبُوا 229- قَدْ وَضَعُوهَا حِسْبَةً فَقُبِلَتْ *** مِنْهُمْ رُكُونًا لَهُمُ وَنُقِلَتْ 230- فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهَا نُقَّادَهَا *** فَبَيَّنُوا بِنَقْدِهِمْ فَسَادَهَا 231- نَحْوُ أَبِي عِصْمَةَ إِذْ رَأَى الْوَرَى *** زَعْمًا نَأَوْا عَنِ الْقُرَانِ فَافْتَرَى 232- لَهُمْ حَدِيثًا فِي فَضَائِلِ السُّوَرْ *** عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَبِئْسَ مَا ابْتَكَرْ 233- كَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أُبَيٍّ اعْتَرَفْ *** رَاوِيهِ بِالْوَضْعِ وَبِئْسَ مَا اقْتَرَفْ 234- وَكُلُّ مَنْ أَوْدَعَهُ كِتَابَهُ *** كَالْوَاحِدِيِّ مُخْطِئٌ صَوَابَهُ 235- وَجَوَّزَ الْوَضْعَ عَلَى التَّرْغِيبِ *** قَوْمُ ابْنِ كَرَّامٍ وَفِي التَّرْهِيبِ 236- وَالْوَاضِعُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ صَنَعَا *** مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَبَعْضٌ وَضَعَا 237- كَلَامَ بَعْضِ الْحُكَمَا فِي الْمُسْنَدِ *** وَمِنْهُ نَوْعٌ وَضْعُهُ لَمْ يُقْصَدِ 238- نَحْوُ حَدِيثِ ثَابِتٍ “مَنْ كَثُرَتْ *** صَلَاتُهُ“ الْحَدِيثَ وَهْلَةٌ سَرَتْ 239- وَيُعْرَفُ الْوَضْعُ بِالْإِقْرَارِ وَمَا *** نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ وَرُبَّمَا 240- يُعْرَفُ بِالرِّكَّةِ قُلْتُ اسْتَشْكَلَا *** الثَّبَجِيُّ الْقَطْعَ بِالْوَضْعِ عَلَى 241- مَا اعْتَرَفَ الْوَاضِعُ إِذْ قَدْ يَكْذِبُ *** بَلَى نَرُدُّهُ وَعَنْهُ نُضْرِبُ وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ ظَاهِرَةٌ؛ إِذْ مِنْ أَقْسَامِهِ مَا يُلْحَقُ فِي الْمَرْفُوعِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِذَا تَجَاذَبَا بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ. (شَرُّ) أَنْوَاعِ (الضَّعِيفِ) مِنَ الْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ وَغَيْرِهِمَا (الْخَبَرُ الْمَوْضُوعُ). [مَعْنَى الْمَوْضُوعِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا]: وَهُوَ لُغَةً- كَمَا قَالَهُ ابْنُ دِحْيَةَ-: الْمُلْصَقُ، يُقَالُ: وَضَعَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ كَذَا، أَيْ: أَلْصَقَهُ بِهِ، وَهُوَ أَيْضًا الْحَطُّ وَالْإِسْقَاطُ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَلْيَقُ بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ؛ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا. وَاصْطِلَاحًا: (الْكَذِبُ) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْمُخْتَلَقُ) بِفَتْحِ اللَّامِ، الَّذِي لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ، (الْمَصْنُوعُ) مِنْ وَاضِعِهِ، وَجِيءَ فِي تَعْرِيفِهِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَارِبَةِ لِلتَّأْكِيدِ فِي التَّنْفِيرِ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ مِنْهَا مِنَ الزَّوَائِدِ. وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ بَعْضَ عُلَمَاءِ الْعَجَمِ أَنْكَرَ عَلَى النَّاظِمِ قَوْلَهُ فِي حَدِيثٍ سُئِلَ عَنْهُ: أَنَّهُ كَذِبٌ، مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ مِنْ (الْمَوْضُوعَاتِ) لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ كَوْنِهِ لَا يَعْرِفُ مَوْضُوعَ الْمَوْضُوعِ. وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ الصَّلَاحِ بِكَوْنِهِ شَرَّ الضَّعِيفِ، بَلْ سَبَقَهُ لِذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ أَيْضًا فِي أَوَّلِ الضَّعِيفِ: مَا عَدِمَ صِفَاتِ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ هُوَ الْقِسْمُ الْآخَرُ الْأَرْذَلُ؛ لِحَمْلِ ذَاكَ عَلَى مُطْلَقِ الْوَاهِي الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَوْضُوعِ وَغَيْرِهِ، كَمَا قِيلَ: أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ الصَّلَاةُ، مَعَ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِهَا. وَأَمَّا هُنَا فَإِنَّهُ بَيَّنَ نَوْعًا مِنْهُ، وَهُوَ شَرُّ أَنْوَاعِهِ، لَكِنْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَيْسَتْ هُنَا عَلَى بَابِهَا، حَتَّى لَا يَلْزَمَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الضَّعِيفِ وَالْمَوْضُوعِ فِي الشَّرِّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَاكَ فِي الضَّعِيفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَقْبُولِ. ثُمَّ إِنَّ وَرَاءَ هَذَا النِّزَاعِ فِي إِدْرَاجِ الْمَوْضُوعِ فِي أَنْوَاعِ الْحَدِيثِ؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِحَدِيثٍ، وَلَكِنْ قَدْ أُجِيبَ بِإِرَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ مَا يُحَدِّثُ بِهِ، أَوْ بِالنَّظَرِ لِمَا فِي زَعْمِ وَاضِعِهِ، وَأَحْسَنُ مِنْهُمَا أَنَّهُ لِأَجْلِ مَعْرِفَةِ الطُّرُقِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا لِمَعْرِفَتِهِ لِيُنْفَى عَنِ الْمَقْبُولِ وَنَحْوِهِ. [حُكْمُ بَيَانِ الْمَوْضُوعِ] (وَكَيْفَ كَانَ) الْمَوْضُوعُ أَيْ: فِي أَيِّ مَعْنًى كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوِ الْقِصَصِ، أَوِ الْفَضَائِلِ، أَوِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَوْ غَيْرِهَا (لَمْ يُجِيزُوا) أَيِ: الْعُلَمَاءُ بِالْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ (ذِكْرَهُ) بِرِوَايَةٍ وَغَيْرِهَا (لِمَنْ عَلِمْ) بِإِدْغَامِ مِيمِهَا فِيمَا بَعْدَهَا، أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ “ وَ “ يُرَى “ مَضْبُوطَةٌ بِضَمِّ الْيَاءِ بِمَعْنَى يَظُنُّ، وَفِي “ الْكَاذِبِينَ “ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: بِفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى إِرَادَةِ التَّثْنِيَةِ، وَالْأُخْرَى: بِكَسْرِهَا عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ. وَكَفَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَعِيدًا شَدِيدًا فِي حَقِّ مَنْ رَوَى الْحَدِيثَ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ كَذِبٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَحَقَّقَ ذَاكَ وَلَا يُبَيِّنَهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْمُحَدِّثَ بِذَلِكَ مُشَارِكًا لِكَاذِبِهِ فِي وَضْعِهِ. وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ رَوَى الْكَذِبَ فَهُوَ الْكَذَّابُ). وَلِذَا قَالَ الْخَطِيبُ: (يَجِبُ عَلَى الْمُحَدِّثِ أَلَّا يَرْوِيَ شَيْئًا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَصْنُوعَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْبَاطِلَةِ الْمَوْضُوعَةِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَاءَ بِالْإِثْمِ الْمُبِينِ، وَدَخَلَ فِي جُمْلَةِ الْكَذَّابِينَ). وَكَتَبَ الْبُخَارِيُّ عَلَى حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ: مَنْ حَدَّثَ بِهَذَا، اسْتَوْجَبَ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ وَالْحَبْسَ الطَّوِيلَ. لَكِنْ مَحَلُّ هَذَا (مَا لَمْ يُبَيِّنْ) ذَاكِرُهُ (أَمْرَهْ)؛ كَأَنْ يَقُولَ: هَذَا كَذِبٌ، أَوْ بَاطِلٌ، أَوْ نَحْوَهُمَا مِنَ الصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ. وَفِي الِاقْتِصَارِ عَلَى التَّعْرِيفِ بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا نَظَرٌ، فَرُبَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ مَوْضُوعُهُ؛ كَمَا قَدَّمْتُ الْحِكَايَةَ فِيهِ، وَكَذَا لَا يُبَرَّأُ مِنَ الْعُهْدَةِ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى إِيرَادِ إِسْنَادِهِ بِذَلِكَ؛ لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنَ الْمَحْذُورِ بِهِ، وَإِنْ صَنَعَهُ أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ فِي الْأَعْصَارِ الْمَاضِيَةِ فِي سَنَةِ مِائَتَيْنِ، وَهَلُمَّ جَرًّا، خُصُوصًا الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَابْنُ مَنْدَهْ. فَإِنَّهُمْ إِذَا سَاقُوا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ، اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ بَرِئُوا مِنْ عُهْدَتِهِ، حَتَّى بَالَغَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَقَالَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ أُبَيٍّ الْآتِي: (إِنَّ شَرَهَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ يَحْمِلُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ مِنْ عَادَاتِهِمْ تَنْفِيقَ حَدِيثِهِمْ وَلَوْ بِالْأَبَاطِيلِ، وَهَذَا قَبِيحٌ مِنْهُمْ). قَالَ شَيْخَنَا: (وَكَأَنَّ ذِكْرَ الْإِسْنَادِ عِنْدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْبَيَانِ، هَذَا مَعَ إِلْحَاقِ اللَّوْمِ لِمَنْ سَمَّيْنَا بِسَبَبِهِ). وَأَمَّا الشَّارِحُ فَإِنَّهُ قَالَ: (إِنَّ مَنْ أَبْرَزَ إِسْنَادَهُ بِهِ، فَهُوَ أَبْسَطُ لِعُذْرِهِ؛ إِذْ أَحَالَ نَاظِرَهُ عَلَى الْكَشْفِ عَنْ سَنَدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ). انْتَهَى. قَالَ الْخَطِيبُ: (وَمَنْ رَوَى حَدِيثًا مَوْضُوعًا عَلَى سَبِيلِ الْبَيَانِ لِحَالِ وَاضِعِهِ، وَالِاسْتِشْهَادِ عَلَى عَظِيمِ مَا جَاءَ بِهِ، وَالتَّعَجُّبِ مِنْهُ، وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُ- سَاغَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ بِمَثَابَةِ إِظْهَارِ الشَّاهِدِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى كَشْفِهِ وَالْإِبَانَةِ عَنْهُ). وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَسَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِهِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قُبَيْلَ مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ قَرِيبًا. [الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ فِي الْمَوْضُوعِ] وَيُوجَدُ الْمَوْضُوعُ كَثِيرًا فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي الضُّعَفَاءِ، وَكَذَا فِي الْعِلَلِ، (وَ) لَقَدْ (أَكْثَرَ الْجَامِعُ فِيهِ) مُصَنَّفًا نَحْوَ مُجَلَّدَيْنِ (إِذْ خَرَجَ) عَنْ مَوْضُوعِ كِتَابِهِ (لِمُطْلَقِ الضَّعْفِ)؛ حَيْثُ أَخْرَجَ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَا دَلِيلَ مَعَهُ عَلَى وَضْعِهَا. وَ(عَنَى) ابْنُ الصَّلَاحِ بِهَذَا الْجَامِعِ الْحَافِظَ الشَّهِيرَ (أَبَا الْفَرَجِ) بْنَ الْجَوْزِيِّ، بَلْ رُبَّمَا أَدْرَجَ فِيهَا الْحَسَنَ، وَالصَّحِيحَ مِمَّا هُوَ فِي أَحَدِ الصَّحِيحَيْنِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ مَعَ إِصَابَتِهِ فِي أَكْثَرِ مَا عِنْدَهُ تَوَسُّعٌ مُنْكَرٌ، يَنْشَأُ عَنْهُ غَايَةُ الضَّرَرِ مِنْ ظَنِّ مَا لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ بَلْ هُوَ صَحِيحٌ مَوْضُوعًا، مِمَّا قَدْ يُقَلِّدُهُ فِيهِ الْعَارِفُ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ؛ حَيْثُ لَمْ يَبْحَثْ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ. وَلِذَا انْتَقَدَ الْعُلَمَاءُ صَنِيعَهُ إِجْمَالًا، وَالْمُوقِعُ لَهُ فِيهِ إِسْنَادُهُ فِي غَالِبِهِ بِضَعْفِ رَاوِيهِ الَّذِي رُمِيَ بِالْكَذِبِ مَثَلًا، غَافِلًا عَنْ مَجِيئِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَرُبَّمَا يَكُونُ اعْتِمَادُهُ فِي التَّفَرُّدِ قَوْلَ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَكُونُ كَلَامُهُ فِيهِ مَحْمُولًا عَلَى النِّسْبِيِّ، هَذَا مَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ تَفَرُّدِ الْكَذَّابِ بَلِ الْوَضَّاعِ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الِاسْتِقْصَاءِ فِي التَّفْتِيشِ مِنْ حَافِظٍ مُتَبَحِّرٍ تَامِّ الِاسْتِقْرَاءِ- غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنَ انْضِمَامِ شَيْءٍ مِمَّا سَيَأْتِي. وَلِذَا كَانَ الْحُكْمُ بِهِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَسِيرًا جِدًّا، وَلِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ، بِخِلَافِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ مَنَحَهُمُ اللَّهُ التَّبَحُّرَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَالتَّوَسُّعَ فِي حِفْظِهِ؛ كَشُعْبَةَ وَالْقَطَّانِ، وَابْنِ مَهْدِيٍّ وَنَحْوِهِمْ، وَأَصْحَابِهِمْ مِثْلِ أَحْمَدَ وَابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَابْنِ مَعِينٍ، وَابْنِ رَاهَوَيْهِ، وَطَائِفَةٍ، ثُمَّ أَصْحَابِهِمْ مِثْلِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ. وَهَكَذَا إِلَى زَمَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَهُمْ مُسَاوٍ لَهُمْ، وَلَا مُقَارِبٌ. أَفَادَهُ الْعَلَائِيُّ، وَقَالَ: (فَمَتَى وَجَدْنَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْحُكْمَ بِهِ، كَانَ مُعْتَمَدًا؛ لِمَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْحِفْظِ الْغَزِيرِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْهُمْ، عُدِلَ إِلَى التَّرْجِيحِ). انْتَهَى. وَفِي جَزْمِهِ بِاعْتِمَادِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا حَكَمُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ تَوَقُّفٌ، ثُمَّ إِنَّ مِنَ الْعَجَبِ إِيرَادَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ (الْعِلَلِ الْمُتَنَاهِيَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ) كَثِيرًا مِمَّا أَوْرَدَهُ فِي الْمَوْضُوعَاتِ كَمَا أَنَّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ، بَلْ قَدْ أَكْثَرَ فِي تَصَانِيفِهِ الْوَعْظِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ إِيرَادِ الْمَوْضُوعِ وَشَبَهِهِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَفَاتَهُ مِنْ نَوْعَيِ الْمَوْضُوعِ وَالْوَاهِي فِي الْكِتَابَيْنِ قَدْرُ مَا كَتَبَ. قَالَ: (وَلَوِ انْتُدِبَ شَخْصٌ لِتَهْذِيبِ الْكِتَابِ ثُمَّ لِإِلْحَاقِ مَا فَاتَهُ، لَكَانَ حَسَنًا، وَإِلَّا فَمَا تَقَرَّرَ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ إِلَّا لِلنَّاقِدِ؛ إِذْ مَا مِنْ حَدِيثٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ مَوْضُوعًا، وَهُوَ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ طَرَفَا نَقِيضٍ، يَعْنِي فَإِنَّهُ أَدْرَجَ فِيهِ الْحَسَنَ، بَلْ وَالضَّعِيفَ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ الْمَوْضُوعُ. وَمِمَّنْ أَفْرَدَ بَعْدَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعِ كُرَّاسَةً الرَّضِيُّ الصَّغَانِيُّ اللُّغَوِيُّ، ذَكَرَ فِيهَا أَحَادِيثَ مِنَ (الشِّهَابِ) لِلْقُضَاعِيِّ، وَ(النَّجْمِ) لِلْإِقْلِيشِيِّ وَغَيْرِهِمَا كَـ(الْأَرْبَعِينَ) لِابْنِ وَدْعَانَ، وَ(فَضَائِلِ الْعُلَمَاءِ) لِمُحَمَّدِ بْنِ سُرُورٍ الْبَلْخِيِّ، وَ(الْوَصِيَّةِ) لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَ(خُطْبَةِ الْوَدَاعِ وَآدَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وَأَحَادِيثِ أَبِي الدُّنْيَا الْأَشَجِّ، وَنَسْطُورٍ، وَيَغْنَمَ بْنِ سَالِمٍ، وَدِينَارٍ الْحَبَشِيِّ، وَأَبِي هُدْبَةَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هُدْبَةَ، وَنُسْخَةِ سَمْعَانَ عَنْ أَنَسٍ وَ(الْفِرْدَوْسِ) لِلدَّيْلَمِيِّ، وَفِيهَا الْكَثِيرُ أَيْضًا مِنَ الصَّحِيحِ وَالْحَسَنِ، وَمَا فِيهِ ضَعْفٌ يَسِيرٌ. وَقَدْ أَفْرَدَهُ النَّاظِمُ فِي جُزْءٍ، وَلِلْجَوْزَقَانِيِّ أَيْضًا “ كِتَابُ الْأَبَاطِيلِ “ أَكْثَرَ فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ بِالْوَضْعِ لِمُجَرَّدِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ خَطَأٌ، إِلَّا إِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ؛ وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: “ لَا يَؤُمَّنَّ عَبْدٌ قَوْمًا، فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ..... “ الْحَدِيثَ، حَكَمَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِالْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: “ اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ “، وَهَذَا خَطَأٌ لِإِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى مَا لَمْ يُشْرَعْ لِلْمُصَلِّي مِنَ الْأَدْعِيَةِ، بِخِلَافِ مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ. وَكَذَا صَنَّفَ عُمَرُ بْنُ بَدْرٍ الْمَوْصِلِيُّ كِتَابًا سَمَّاهُ “ الْمُغْنِي عَنِ الْحِفْظِ وَالْكِتَابِ بِقَوْلِهِمْ: لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ فِي هَذَا الْبَابِ “ وَعَلَيْهِ فِيهِ مُؤَاخِذَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي كُلٍّ مِنْ أَبْوَابِهِ سَلَفٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ خُصُوصًا الْمُتَقَدِّمِينَ، [وَنَحْوُ هَذَا أَشْيَاءُ كُلِّيَّةٌ مُنْتَقَدٌ كَثِيرٌ فِيهَا؛ كَقَوْلِ: كُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ: يَا حُمَيْرَاءُ، وَكُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ زَبَدُ الْبَحْرِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: حَدِيثُ كَذَا لَيْسَ أَصْلًا، وَلَا أَصْلَ لَهُ فَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ]. [أَصْنَافُ الْوَاضِعِينَ] (وَالْوَاضِعُونَ) جَمْعُ وَاضِعٍ (لِلْحَدِيثِ) وَهُمْ جَمْعٌ كَثِيرُونَ مَعْرُوفُونَ فِي كُتُبِ الضُّعَفَاءِ خُصُوصًا (الْمِيزَانَ) لِلذَّهَبِيِّ وَ “ لِسَانَهُ “ لِشَيْخِنَا، بَلْ أَفْرَدَهُمُ الْحَافِظُ الْبُرْهَانُ الْحَلَبِيُّ فِي تَأْلِيفٍ سَمَّاهُ (الْكَشْفَ الْحَثِيثَ عَمَّنْ رُمِيَ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ) وَهُوَ قَابِلٌ لِلِاسْتِدْرَاكِ، وَيَخْتَلِفُ حَالُهُمْ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ. وَفِي السَّبَبِ الْحَامِلِ لَهُمْ عَلَى الْوَضْعِ (أَضْرُبُ) أَيْ: أَصْنَافٌ، فَصِنْفٌ كَالزَّنَادِقَةِ، وَهُمُ الْمُبْطِنُونَ لِلْكُفْرِ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ، أَوِ الَّذِينَ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِدِينٍ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا بِالدِّينِ؛ لِيُضِلُّوا بِهِ النَّاسَ. فَقَدْ قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْعُقَيْلِيُّ: إِنَّهُمْ وَضَعُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ حَدِيثٍ. وَقَالَ الْمَهْدِيُّ فِيمَا رُوِّينَاهُ عَنْهُ: أَقَرَّ عِنْدِي رَجُلٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ بِوَضْعِ مِائَةِ حَدِيثٍ، فَهِيَ تَجُولُ فِي أَيْدِي النَّاسِ. وَمِنْهُمُ: الْحَارِثُ الْكَذَّابُ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبُ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ سَعِيدٍ الْكُوفِيُّ، وَغَيْرُهُمْ كَعَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ خَالِ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ، الَّذِي أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ الْعَبَّاسِيُّ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِّ، بَعْدَ السِّتِّينَ وَمِائَةٍ، وَاعْتَرَفَ حِينَئِذٍ بِوَضْعِ أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ تُحَرِّمُ حَلَالَهَا وَتُحِلُّ حَرَامَهَا. وَصِنْفٌ كَالْخَطَّابِيَّةِ، فِرْقَةٍ مِنْ غُلَاةِ الشِّيعَةِ الْمُشَايِعِينَ عَلِيًّا رضِيَ اللَّهُ عنهُ يَنْتَسِبُونَ لِأَبِي الْخَطَّابِ الْأَسَدِيِّ، كَانَ يَقُولُ بِالْحُلُولِ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ عَلَى التَّعَاقُبِ، ثُمَّ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ وَقُتِلَ. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مُنْدَرِجَةٌ فِي الرَّافِضَةِ؛ إِذِ الرَّافِضَةُ فِرَقٌ مُتَنَوِّعَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ، وَانْتَسَبُوا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ، ثُمَّ قَالُوا لَهُ: تَبَرَّأْ مِنَ الشَّيْخَيْنِ فَأَبَى، وَقَالَ: كَانَا وَزِيرَيْ جَدِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرَكُوهُ وَرَفَضُوهُ. وَكَالسَّالِمِيَّةِ: فِرْقَةٍ يَنْتَسِبُونَ لِمَذْهَبِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَالِمٍ السَّالِمِيِّ فِي الْأُصُولِ، وَكَانَ مَذْهَبًا مَشْهُورًا بِالْبَصْرَةِ وَسَوَادِهَا، فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَفْعَلُونَهُ انْتِصَارًا وَتَعَصُّبًا لِمَذْهَبِهِمْ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِ (الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ) عَنْ شَيْخٍ مِنَ الْخَوَارِجِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَمَا تَابَ: انْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ، فَإِنَّا كُنَّا إِذَا هَوِينَا أَمْرًا صَيَّرْنَاهُ حَدِيثًا، زَادَ غَيْرُهُ فِي رِوَايَةٍ: وَنَحْتَسِبُ الْخَيْرَ فِي إِضْلَالِكُمْ. وَكَذَا قَالَ مُحْرِزٌ أَبُو رَجَاءٍ، وَكَانَ يَرَى الْقَدْرَ فَتَابَ مِنْهُ: لَا تَرْوُوا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ شَيْئًا، فَوَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَضَعُ الْأَحَادِيثَ، نُدْخِلُ بِهَا النَّاسَ فِي الْقَدَرِ، نَحْتَسِبُ بِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. بَلْ قَالَ الشَّافِعِيُّ- كَمَا سَيَأْتِي فِي مَعْرِفَةِ مَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ-: مَا فِي أَهْلِ الْأَهْوَاءِ أَشْهَدُ بِالزُّورِ مِنَ الرَّافِضَةِ. وَصِنْفٌ يَتَقَرَّبُونَ لِبَعْضِ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ بِوَضْعِ مَا يُوَافِقُ فِعْلَهُمْ وَآرَاءَهُمْ؛ لِيَكُونَ كَالْعُذْرِ لَهُمْ فِيمَا أَتَوْهُ وَأَرَادُوهُ؛ كَغَيَّاثِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ؛ حَيْثُ وَضَعَ لِلْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ وَالِدِ هَارُونَ الرَّشِيدِ فِي حَدِيثِ: “ لَا سَبْقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ “، فَزَادَ فِيهِ: “ أَوْ جَنَاحٍ “. وَكَانَ الْمَهْدِيُّ إِذْ ذَاكَ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ، فَأَمَرَ لَهُ بِبَدْرَةٍ يَعْنِي عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا قَفَّى قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى قَفَاكَ أَنَّهُ قَفَا كَذَّابٍ، ثُمَّ تَرَكَ الْحَمَامَ، وَأَمَرَ بِذَبْحِهَا وَقَالَ: أَنَا حَمَلْتُهُ عَلَى ذَلِكَ، ذَكَرَهَا أَبُو خَيْثَمَةَ. لَكِنْ أَسْنَدَ الْخَطِيبُ فِي تَرْجَمَةِ وَهْبِ بْنِ وَهْبٍ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ مِنْ (تَأْرِيخِهِ) مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَتَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا رَوَى: “ لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ أَوْ جَنَاحٍ “؟ فَقَالَ: مَا رَوَى ذَاكَ إِلَّا ذَاكَ الْكَذَّابُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ. بَلْ رَوَى الْخَطِيبُ فِي تَرْجَمَتِهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا السَّاجِيِّ أَنَّ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ دَخَلَ وَهُوَ قَاضٍ عَلَى الرَّشِيدِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ يُطَيِّرُ الْحَمَامَ، فَقَالَ: هَلْ تَحْفَظُ فِي هَذَا شَيْئًا، فَقَالَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُطَيِّرُ الْحَمَامَ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: اخْرُجْ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَعَزَلْتُهُ. وَصِنْفٌ فِي ذَمِّ مَنْ يُرِيدُونَ ذَمَّهُ، كَمَا رُوِّينَا عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ الْإِسْكَافِ الْمُخَرَّجِ لَهُ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّهُ رَأَى ابْنَهُ يَبْكِي فَقَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: ضَرَبَنِي الْمُعَلِّمُ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لِأُخْزِيَنَّهُمْ، حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مُعَلِّمُو صِبْيَانِكُمْ شِرَارُكُمْ. وَصِنْفٌ كَانُوا يَتَكَسَّبُونَ بِذَلِكَ، وَيَرْتَزِقُونَ بِهِ فِي قِصَصِهِمْ وَمَوَاعِظِهِمْ. وَصِنْفٌ يَلْجَئُونَ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ عَلَى مَا أَفْتَوْا فِيهِ بِآرَائِهِمْ فَيَضَعُونَهُ. وَقَدْ حَصَلَ الضَّرَرُ بِجَمِيعِ هَؤُلَاءِ وَ (أَضَرُّهُمْ قَوْمٌ لِزُهْدٍ) وَصَلَاحٍ (نُسِبُوا)؛ كَأَبِي بِشْرٍ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ الْفَقِيهِ، وَأَبِي دَاوُدَ النَّخَعِيِّ (قَدْ وَضَعُوهَا) أَيِ: الْأَحَادِيثَ فِي الْفَضَائِلِ وَالرَّغَائِبِ (حِسْبَةً) أَيْ: لِلْحِسْبَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَحْتَسِبُونَ بِزَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ وَجَهْلِهِمْ، لَا يُفَرِّقُونَ بِسَبَبِهِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ لَهُمْ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ فِي صَنِيعِهِمْ ذَلِكَ- الْأَجْرَ وَطَلَبَ الثَّوَابِ؛ لِكَوْنِهِمْ يَرُونَهُ قُرْبَةً، وَيَحْتَسِبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. كَمَا يُحْكَى عَمَّنْ كَانَ يَتَصَدَّى لِلشَّهَادَةِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ؛ زَاعِمًا لِلْخَيْرِ بِذَلِكَ؛ لِكَوْنِ اشْتِغَالِ النَّاسِ بِالتَّعَبُّدِ بِالصَّوْمِ يَكُفُّهُمْ عَنْ مَفَاسِدَ تَقَعُ مِنْهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ (فَقُبِلَتْ) تِلْكَ الْمَوْضُوعَاتُ (مِنْهُمْ رُكُونًا لَهُمُ) بِضَمِّ الْمِيمِ؛ أَيْ مَيْلًا إِلَيْهِمْ وَوُثُوقًا بِهِمْ؛ لِمَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ التَّدَيُّنِ. (وَنُقِلَتْ) عَنْهُمْ عَلَى لِسَانِ مَنْ هُوَ فِي الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِيَّةِ بِمَكَانٍ؛ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ الْمُقْتَضِي لِحَمْلِ مَا سَمِعَهُ عَلَى الصِّدْقِ، وَعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ لِتَمْيِيزِ الْخَطَأِ مِنَ الصَّوَابِ (فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهَا) أَيْ لِهَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ (نُقَّادَهَا) جَمْعَ نَاقِدٍ يُقَالُ: نَقَدْتُ الدَّرَاهِمَ، إِذَا اسْتَخْرَجْتَ مِنْهَا الزَّيْفَ، وَهُمُ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِنُورِ السُّنَّةِ، وَقُوَّةِ الْبَصِيرَةِ، فَلَمْ تَخْفَ عَنْهُمْ حَالُ مُفْتَرٍ، وَلَا زُورُ كَذَّابٍ. (فَبَيَّنُوا بِنَقْدِهِمْ فَسَادَهَا)، وَمَيَّزُوا الْغَثَّ مِنَ السَّمِينِ، وَالْمُزَلْزَلَ مِنَ الْمَكِينِ، وَقَامُوا بِأَعْبَاءِ مَا تَحَمَّلُوهُ، وَلِذَا لَمَّا قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَصْنُوعَةُ؟ قَالَ: تَعِيشُ لَهَا الْجَهَابِذَةُ، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الْحِجْرِ: 9]. انْتَهَى. وَمِنْ حِفْظِهِ هَتْكُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يَا أَهْلَ بَغْدَادَ، لَا تَظُنُّوا أَنَّ أَحَدًا يَقْدِرُ أَنْ يَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا حَيٌّ، وَقَدْ تَعَيَّنَ جَمَاعَةٌ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْأَصْنَافِ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ وَعُلَمَاءِ الرِّجَالِ. وَلِذَلِكَ- لَا سِيَّمَا الْأَخِيرُ- أَمْثِلَةٌ (نَحْوُ) مَا رُوِّينَاهُ عَنْ (أَبِي عِصْمَةَ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ نُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْقُرَشِيِّ مَوْلَاهُمُ الْمَرْوَزِيِّ قَاضِيهَا فِي حَيَاةِ شَيْخِهِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُلَقَّبِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ التَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ، وَالْمَغَازِي، وَالْفِقْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا- الْجَامِعُ. (إِذْ رَأَى الْوَرَى) أَيِ الْخَلْقَ (زَعْمًا) بِتَثْلِيثِ الزَّايِ بَاطِلًا مِنْهُ (نَأَوْا) أَيْ: أَعْرَضُوا (عَنِ الْقُرْآنِ) بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ- كَقِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ- وَاشْتَغَلُوا بِفِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَغَازِي ابْنِ إِسْحَاقَ، مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ شُيُوخِهِ (فَافْتَرَى) أَيِ: اخْتَلَقَ (لَهُمْ) أَيْ: لِلْوَرَى مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ حِسْبَةً بِاعْتِرَافِهِ حَسَبَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو عَمَّارٍ أَحَدُ الْمَجَاهِيلِ (حَدِيثًا فِي فَضَائِلِ السُّوَرِ) كُلِّهَا سُورَةً سُورَةً. وَرَوَاهُ عَنْ عِكْرِمَةَ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (فَبِئْسَ) كَمَا زَادَهُ النَّاظِمُ (مَا ابْتَكَرْ) فِي وَضْعِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا أَدْرَكَهُ مِنَ الْإِثْمِ بِسَبَبِهِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِوَضْعِ أَبِي عِصْمَةَ لَهُ الْحَاكِمُ، وَكَأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ الطَّرِيقُ إِلَيْهِ بِهِ. وَقَالَ هُوَ وَابْنُ حِبَّانَ: إِنَّهُ جَمَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الصِّدْقَ، وَ(كَذَا الْحَدِيثُ) الطَّوِيلُ (عَنْ أُبَيٍّ) هُوَ ابْنُ كَعْبٍ رضِيَ اللَّهُ عنهُ فِي فَضَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ أَيْضًا (اعْتَرَفْ رَاوِيهِ بِالْوَضْعِ) لَهُ. فَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُؤَمَّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْعَدَوِيِّ الْبَصْرِيِّ ثُمَّ الْمَكِّيِّ الْمُتَوَفَّى بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ. وَكَانَ- كَمَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ- شَدِيدًا فِي السُّنَّةِ، وَرَفَعَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ شَأْنِهِ، مَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ سَأَلَهُ عَنْ شَيْخِهِ فِيهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ بِالْمَدَائِنِ وَهُوَ حَيٌّ، فَارْتَحَلَ إِلَيْهِ، فَأَحَالَ عَلَى شَيْخٍ بِوَاسِطَ، فَارْتَحَلَ إِلَيْهِ، فَأَحَالَ عَلَى شَيْخٍ بِالْبَصْرَةِ، فَارْتَحَلَ إِلَيْهِ، فَأَحَالَ عَلَى شَيْخٍ بِعَبَادَانَ. قَالَ الْمُؤَمَّلُ: فَلَمَّا صِرْتُ إِلَيْهِ، أَخَذَ بِيَدِي فَأَدْخَلَنِي بَيْتًا، فَإِذَا فِيهِ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَمَعَهُمْ شَيْخٌ، فَقَالَ: هَذَا الشَّيْخُ حَدَّثَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: يَا شَيْخُ، مَنْ حَدَّثَكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ: لَمْ يُحَدِّثْنِي بِهِ أَحَدٌ، وَلَكِنَّا رَأَيْنَا النَّاسَ قَدْ رَغِبُوا عَنِ الْقُرْآنِ، فَوَضَعْنَا لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ؛ لِيَصْرِفُوا قُلُوبَهُمْ إِلَى الْقُرْآنِ. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طَرِيقِهِ قَالَ: أَظُنُّ الزَّنَادِقَةَ وَضَعَتْهُ، بَلْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا عِصْمَةَ وَاضِعُ الَّذِي قَبْلَهُ هُوَ الَّذِي وَضَعَ هَذَا أَيْضًا. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مَوْضُوعٌ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَنْ أُبَيٍّ طُرُقٌ (وَبِئْسَ) كَمَا زَادَهُ النَّاظِمُ أَيْضًا (مَا اقْتَرَفْ) أَيِ: اكْتَسَبَ وَاضِعُهُ (وَ) لِهَذَا (كُلُّ مَنْ أَوْدَعَهُ كِتَابَهُ) فِي التَّفْسِيرِ (كَـ) أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ (الْوَاحِدِيِّ) بِمُهْمَلَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: لَا أَدْرِي لِمَ نُسِبَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ يُقَالُ: هُوَ وَاحِدُ قَوْمِهِ وَوَاحِدُ أُمِّهِ، فَلَعَلَّهُ نُسِبَ إِلَى أَبٍ أَوْ جَدٍّ، أَوْ قَرِيبٍ هَذِهِ صِفَتُهُ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبِي إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيِّ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَفِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ كَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ الْحَافِظِ ابْنِ الْحَافِظِ فَهُوَ (مُخْطِئٌ) فِي ذَلِكَ (صَوَابَهُ)؛ إِذِ الصَّوَابُ تَجَنُّبُ إِيرَادِ الْمَوْضُوعِ إِلَّا مَقْرُونًا بِبَيَانِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ أَشَدُّهُمْ خَطَأً؛ حَيْثُ أَوْرَدَهُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ غَيْرَ مُبْرِزٍ لِسَنَدِهِ، وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ بِخِلَافِ الْآخَرِينَ، فَإِنَّهُمْ سَاقُوا إِسْنَادَهُ. وَإِنْ حَكَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا عَدَمَ جَوَازِهِ أَيْضًا (وَجَوَّزَ الْوَضْعَ) عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (عَلَى) وَجْهِ (التَّرْغِيبِ) لِلنَّاسِ فِي الطَّاعَةِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ (قَوْمُ) أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ (ابْنِ كَرَّامٍ) بِالتَّشْدِيدِ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا وَغَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ ضَبَطَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ مَاكُولَا وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ مَسْعُودٌ الْحَارِثِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إِنَّهُ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ. وَأَبَاهُ مُتَكَلِّمُ الْكَرَّامِيَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْثَمِ فَقَالَ: الْمَعْرُوفُ فِي أَلْسِنَةِ الْمَشَايِخِ- يَعْنِي: مَشَايِخَهُمْ- بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ بِمَعْنَى كَرَامَةٍ أَوْ كَرِيمٍ، فَقَالَ: وَيُقَالُ: بِكَسْرِ الْكَافِ عَلَى لَفْظِ جَمْعٍ كَرِيمٍ، قَالَ: وَهُوَ الْجَارِي عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ سِجِسْتَانَ، وَقَوْلُ أَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ فِيهِ، وَكَانَ وَلِعًا بِالْجِنَاسِ: إِنَّ الَّذِينَ بِجَهْلِهِمْ لَمْ يَقْتَدُوا بِمُحَمَّدِ بْنِ كِرَامَ غَيْرُ كِرَامِ الْفِقْهُ فِقْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ وَالدِّينُ دِينُ مُحَمَّدِ بْنِ كِرَامِ - شَاهِدٌ لِلتَّخْفِيفِ فِيهِ [إِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةً]، وَهُوَ السِّجِسْتَانِيُّ الَّذِي كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا ثُمَّ خُذِلَ- كَمَا قَالَ ابْنُ حِبَّانَ- فَالْتَقَطَ مِنَ الْمَذَاهِبِ أَرْدَأَهَا، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ أَوْهَاهَا، وَصَحِبَ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْجُوبَارِيَّ، فَكَانَ يَضَعُ لَهُ الْحَدِيثَ عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِهِ. (وَ) كَذَا جَوَّزُوا الْوَضْعَ (فِي التَّرْهِيبِ) زَجْرًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، مُحْتَجِّينَ فِي ذَلِكَ- مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ إِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ- بِأَنَّ الْكَذِبَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ هُوَ لِلشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِكَوْنِهِ مُقَوِّيًا لِشَرِيعَتِهِ، لَا عَلَيْهِ، وَالْكَذِبَ عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ كَأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَاحِرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، مِمَّا يُقْصَدُ شَيْنُهُ بِهِ، وَعَيْبُ دِينِهِ، وَبِزِيَادَةِ: “ لِيُضِلَّ بِهِ النَّاسَ “ فِي حَدِيثِ: “ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا “ الَّتِي هِيَ مُقَيِّدَةٌ لِلْإِطْلَاقِ. وَبِكَوْنِ حَدِيثِ: “ مَنْ كَذَبَ “ إِنَّمَا وَرَدَ فِي رَجُلٍ مُعَيَّنٍ، ذَهَبَ إِلَى قَوْمٍ وَادَّعَى أَنَّهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَحَكَمَ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ هَذَا الْحَدِيثَ. وَفِي هَذِهِ مُتَمَسَّكٌ لِلْمُحْتَسِبِينَ أَيْضًا الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ مِنْ هَؤُلَاءِ، لَكِنَّهَا مَرْدُودَةٌ عَلَيْهِمَا. [وُجُوهُ الرَّدِّ عَلَى الْمُحْتَسِبِينَ] أَمَّا الْأَوَّلُ- كَمَا قَالَ شَيْخُنَا- جَهْلٌ مِنْهُمْ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ فِي وَضْعِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّ الْمَنْدُوبَ قِسْمٌ مِنْهَا، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْإِخْبَارَ عَنِ اللَّهِ فِي الْوَعْدِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الثَّوَابِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَالزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى ضَعْفِهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ قَبُولِهَا فَاللَّامُ لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِنَّمَا هِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ أَيْ: يَصِيرُ كَذِبُهُمْ لِلْإِضْلَالِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [الْقَصَصِ: 8] وَهُمْ لَمْ يَلْتَقِطُوهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ، أَوْ لَامُ التَّأْكِيدِ- يَعْنِي كَمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ- وَلَا مَفْهُومَ لَهَا؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: 144]؛ لِأَنَّ افْتِرَاءَهُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا؛ سَوَاءٌ قَصَدَ بِهِ الْإِضْلَالَ، أَمْ لَمْ يَقْصِدْ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَالسَّبَبُ الْمَذْكُورُ لَمْ يَثْبُتْ إِسْنَادُهُ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ مُتَمَسَّكٌ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وَنَحْوُ هَذَا الْمَذْهَبِ الرَّدِيءِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْآتِي قَرِيبًا، وَمِمَّا يُرَدُّ بِهِ عَلَى أَهْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ كِفَايَةً عَنْ غَيْرِهَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَامِ: 38]. وَقَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّ ذَلِكَ تَكَرَّرَ عَلَى الْأَسْمَاعِ وَسَقَطَ وَقْعُهُ، وَمَا هُوَ جَدِيدٌ فَوَقْعُهُ أَعْظَمُ، هُوَ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ: هَوَسٌ وَالْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي لَا يُقَاوِمُهَا شَيْءٌ؛ بِحَيْثُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَنْ فَعَلَهُ، وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ كَمَا سَيَأْتِي، بَلْ بَالَغَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ فَكَفَّرَ مُتَعَمِّدَهُ. (وَالْوَاضِعُونَ) أَيْضًا (بَعْضُهُمْ قَدْ صَنَعَا) مَا وَضَعَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامًا مُبْتَكَرًا (مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَبَعْضٌ) مِنْهُمْ قَدْ (وَضَعَا كَلَامَ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ) أَوِ الزُّهَّادِ، أَوِ الصَّحَابَةِ، أَوْ مَا يُرْوَى فِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ (فِي الْمُسْنَدِ) الْمَرْفُوعِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ تَرْوِيجًا لَهُ. وَقَدْ رَوَى الْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، كَأَنَّهُ الْمَصْلُوبُ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ إِذَا كَانَ كَلَامٌ حَسَنٌ أَنْ تَضَعَ لَهُ إِسْنَادًا. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ الَّتِي بِآخِرِ (جَامِعِهِ) عَنْ أَبِي مُقَاتِلٍ الْخُرَاسَانِيِّ؛ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي شَدَّادٍ وَبِأَحَادِيثَ طِوَالٍ فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَخِيهِ: يَا عَمِّ، لَا تَقُلْ: حَدَّثَنَا عَوْنٌ، فَإِنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ هَذَا، فَقَالَ: يَابْنَ أَخِي، إِنَّهُ كَلَامٌ حَسَنٌ. وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا عَزَاهُ الزَّرْكَشِيُّ- وَتَبِعَهُ شَيْخُنَا- لِأَبِي الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيِّ صَاحِبِ (الْمُفْهِمِ) قَالَ: اسْتَجَازَ بَعْضُ فُقَهَاءِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ [نِسْبَةَ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] نِسْبَةً قَوْلِيَّةً، فَيَقُولُ فِي ذَلِكَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا. وَلِهَذَا تَرَى كُتُبَهُمْ مَشْحُونَةً بِأَحَادِيثَ تَشْهَدُ مُتُونُهَا بِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ، وَلَا تَلِيقُ بِجَزَالَةِ كَلَامِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقِيمُونَ لَهَا سَنَدًا صَحِيحًا، قَالَ: وَهَؤُلَاءِ يَشْمَلُهُمُ الْوَعِيدُ فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى. [اخْتِلَافُ ضَرَرِ الْوَضْعِ] وَاقْتَصَرَ الشَّارِحُ عَلَى حِكَايَةِ بَعْضِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَالضَّرَرُ بِهَؤُلَاءِ شَدِيدٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعَلَائِيُّ: أَشَدُّ الْأَصْنَافِ ضَرَرًا أَهْلُ الزُّهْدِ؛ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَكَذَا الْمُتَفَقِّهَةُ الَّذِينَ اسْتَجَازُوا نِسْبَةَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا بَاقِي الْأَصْنَافِ- كَالزَّنَادِقَةِ- فَالْأَمْرُ فِيهِمْ أَسْهَلُ؛ لِأَنَّ كَوْنَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ كَذِبًا لَا تَخْفَى إِلَّا عَلَى الْأَغْبِيَاءِ، وَكَذَا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنَ الرَّافِضَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ فِي شَدِّ بِدَعِهِمْ، وَأَمْرُ أَصْحَابِ الْأُمَرَاءِ وَالْقُصَّاصِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ. قَالَ شَيْخُنَا: وَأَخْفَى الْأَصْنَافِ مَنْ لَمْ يَتَعَمَّدِ الْوَضْعَ، مَعَ الْوَصْفِ بِالصِّدْقِ؛ كَمَنْ يَغْلَطُ فَيُضِيفُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَكَمَنِ ابْتُلِيَ بِمَنْ يَدُسُّ فِي حَدِيثِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، كَمَا وَقَعَ لِحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَعَ رَبِيبِهِ، وَلَسُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ مَعَ وَرَّاقِهِ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ مَعَ جَارِهِ، وَلِجَمَاعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمِصْرِيِّينَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ مَعَ خَالِدِ بْنِ نَجِيحٍ الْمَدَائِنِيِّ الْمِصْرِيِّ. وَكَمَنَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ آفَةٌ فِي حِفْظِهِ، أَوْ فِي كِتَابِهِ، أَوْ فِي بَصَرِهِ، فَيَرْوِي مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ غَالِطًا، فَإِنَّ الضَّرَرَ بِهِمْ شَدِيدٌ لِدِقَّةِ اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ الْأَئِمَّةِ النُّقَّادِ. انْتَهَى. وَالْأَمْثِلَةُ لِمَنْ يَضَعُ كَلَامَهُ أَوْ كَلَامَ غَيْرِهِ كَثِيرَةٌ؛ كَحَدِيثِ: (الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ)؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةِ طَبِيبِ الْعَرَبِ أَوْ غَيْرِهِ، وَحَدِيثِ: (مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا. وَحَدِيثِ: (حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ)، فَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ الثَّوْرِيِّ مِنْ (الْحِلْيَةِ) مِنْ قَوْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَجَزَمَ ابْنُ تَيْمِيَةَ بِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ جُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ رضِيَ اللَّهُ عنهُ، وَأَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ لَهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَابْنُ يُونُسَ فِي تَرْجَمَةِ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ التُّجِيبِيِّ مِنْ (تَأْرِيخِ مِصْرَ) لَهُ مِنْ قَوْلِ سَعْدٍ هَذَا. وَلَكِنْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا فِي الْحَادِيَ وَالسَّبْعِينَ مِنْ (الشُّعَبِ) بِسَنَدٍ حَسَنٍ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَفَعَهُ مُرْسَلًا، [قَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا: قَالَ الْعِرَاقِيُّ: مَرَاسِيلُ الْحَسَنِ عِنْدَهُمْ شِبْهُ الرِّيحِ. وَأَوْرَدَهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي الْفِرْدَوْسِ، وَتَبِعَهُ وَلَدُهُ بِلَا إِسْنَادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَفَعَهُ أَيْضًا. وَلَا دَلِيلَ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ مَعَ وُجُودِ هَذَا، وَلِذَا لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَنَدُهُ مِمَّا رُكِّبَ، فَقَدْ رُكِّبَتْ أَسَانِيدُ مَقْبُولَةٌ لِمُتُونٍ ضَعِيفَةٍ أَوْ مُتَوَهَّمَةٍ؛ كَمَا سَيَأْتِي هُنَا وَفِي النَّوْعِ بَعْدَهُ، فَيَكُونُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْوَضْعِ السَّنَدِيِّ. (وَمِنْهُ) أَيِ الْمَوْضُوعِ (نَوْعٌ وَضْعُهُ لَمْ يُقْصَدِ نَحْوُ حَدِيثِ ثَابِتٍ) هُوَ ابْنُ مُوسَى الزَّاهِدُ، الَّذِي رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ عَنْهُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: (مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ) بِاللَّيْلِ......(الْحَدِيثَ)، وَتَمَامُهُ: “ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ “ فَإِنَّ هَذَا لَا أَصْلَ لَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْ أَغْرَبَ الْقُضَاعِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي مُسْنَدِ الشِّهَابِ لَهُ لَمَّا سَاقَهُ مِنْ طُرُقٍ: مَا طَعَنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ- أَيْ مِنَ الْحُفَّاظِ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمْ- فِي إِسْنَادِهِ وَلَا مَتْنِهِ. وَاغْتَرَّ الرُّكْنُ بْنُ الْقَوْبَعِ الْمَالِكِيُّ؛ حَيْثُ قَالَ مِنْ أَبْيَاتٍ: وَمَنْ كَثُرَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ مِنْهُ *** فَيَحْسُنُ وَجْهُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ. وَلَكِنْ لَمْ يَقْصِدْ رَاوِيهِ الْأَوَّلُ وَهُوَ ثَابِتٌ وَضْعَهُ، إِنَّمَا دَخَلَ عَلَى شَرِيكٍ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ إِمْلَائِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَتْنَ الْحَقِيقِيَّ لِهَذَا السَّنَدِ، أَوْ ذَكَرَهُ- حَسَبَ مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ ابْنِ حِبَّانَ- وَهُوَ: “ يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ “. فَقَالَ شَرِيكٌ مُتَّصِلًا بِالسَّنَدِ أَوْ بِالْمَتْنِ حِينَ نَظَرَ إِلَى ثَابِتٍ: “ مَنْ كَثُرَتْ..... “ إِلَى آخِرِهِ، قَاصِدًا بِذَلِكَ مُمَاجَنَةَ ثَابِتٍ لِزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَظَنَّ ثَابِتٌ أَنَّ هَذَا مَتْنُ ذَاكَ السَّنَدِ، أَوْ بَقِيَّةُ الْمَتْنِ لِمُنَاسَبَتِهِ لَهُ، فَكَانَ يُحَدِّثُ بِهِ كَذَلِكَ مُدْرِجًا لَهُ فِي الْمَتْنِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي رَأَيْتُهُ. وَذَلِكَ (وَهْلَةٌ) أَيْ: غَلْطَةٌ مِنْ ثَابِتٍ لِغَفْلَتِهِ الَّتِي أَدَّى إِلَيْهَا صَلَاحُهُ (سَرَتْ) تِلْكَ الْغَلْطَةُ بِحَيْثُ انْتَشَرَتْ، فَرَوَاهُ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَرَنَ بَعْضُهُمْ بِشَرِيكٍ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، وَلَمْ يَقْنَعْ جَمَاعَةٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ بِرِوَايَتِهِ عَنْ ثَابِتٍ، مَعَ تَصْرِيحِ ابْنِ عَدِيٍّ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، بَلْ سَرَقُوهُ مِنْهُ، ثُمَّ رَوَوْهُ عَنْ شَرِيكٍ نَفْسِهِ. وَلِذَا قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ: إِنَّ كُلَّ مَنْ حَدَّثَ بِهِ عَنْ شَرِيكٍ، فَهُوَ غَيْرُ ثِقَةٍ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْعُقَيْلِيِّ: إِنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ وَلَا يُتَابِعُهُ عَلَيْهِ ثِقَةٌ، وَلَا يَخْدِشُ فِي قَوْلِهِمَا رِوَايَةُ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى زَحْمَوَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ ثِقَةً لَهُ عَنْ شَرِيكٍ، فَالرَّاوِي لَهُ عَنْ زَحْمَوَيْهِ ضَعِيفٌ. وَكَذَا سَرَقَهُ بَعْضُهُمْ وَرَوَاهُ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَبَعْضُهُمْ صَيَّرَ لَهُ إِسْنَادًا إِلَى الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ مُسْنَدِ أَنَسٍ. وَفِي قِيَامِ اللَّيْلِ) لِابْنِ نَصْرٍ، وَمُسْنَدِ الشِّهَابِ لِلْقُضَاعِيِّ، وَالْمَوْضُوعَاتِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ مِنْ طُرُقِهِ الْكَثِيرُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَذْكُرُوهُ، وَلَكِنَّهُ مِنْ جَمِيعِهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا بَاطِلٌ، كَشَفَ النُّقَّادُ سِتْرَهَا، وَبَيَّنُوا أَمْرَهَا بِمَا لَا نُطِيلُ بِشَرْحِهِ. وَلَا اعْتِدَادَ بِمَا يُخَالِفُ هَذَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِيمَا رَوَاهُ مُسَبِّحُ بْنُ حَاتِمٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْمَكِّيِّ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا بَالُ الْمُتَهَجِّدِينَ بِاللَّيْلِ، أَحْسَنُ النَّاسِ وُجُوهًا؟! قَالَ: لِأَنَّهُمْ خَلَوْا بِالرَّحْمَنِ، فَأَلْبَسَهُمْ مِنْ نُورِهِ. وَظَهَرَ بِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الصَّلَاحِ- تَبَعًا لِلْخَلِيلِيِّ فِي الْإِرْشَادِ-: إِنَّهُ شِبْهُ الْوَضْعِ حَسَنٌ؛ إِذْ لَمْ يَضَعْهُ ثَابِتٌ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ مَعِينٍ قَالَ فِيهِ: إِنَّهُ كَذَّابٌ، نَعَمِ الطُّرُقُ الْمُرَكَّبَةُ لَهُ مَوْضُوعَةٌ، وَلِذَا جَزَمَ أَبُو حَاتِمٍ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ تَوَهَّمُوهُ حَدِيثًا وَحَمَلَهُمُ الشَّرَهُ وَمَحَبَّةُ الظُّهُورِ عَلَى ادِّعَاءِ سَمَاعِهِ، وَهُمْ صِنْفٌ مِنَ الْوَضَّاعِينَ. كَمَا وَضَعَ بَعْضُهُمْ حِينَ سَمِعَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ يَذْكُرُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ مِمَّا نَسَبَهُ لِعِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامِ-: “ مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ “ فَتَوَهَّمَهُ- كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحِوَارِيِّ مِنْ (الْحِلْيَةِ)- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ لَهُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ سَنَدًا، وَهُوَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ لِسُهُولَتِهِ وَقُرْبِهِ، وَجَلَالَةُ الْإِمَامِ تَنْبُو عَنْ هَذَا. وَأَمَّا ابْنُ حِبَّانَ فَسَمَّاهُ مُدْرَجًا؛ حَيْثُ قَالَ: إِنَّ ثَابِتًا قَالَهُ عَقِبَ حَدِيثِ: “ يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ “، فَأَدْرَجَهُ فِي الْخَبَرِ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْمُدْرَجِ، كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ هُنَاكَ؛ إِذْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي إِطْلَاقِ الْإِدْرَاجِ كَوْنَهُ عَمْدًا، بَلْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. [طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْوَضْعِ] (وَيُعْرَفُ الْوَضْعُ) لِلْحَدِيثِ (بِالْإِقْرَارِ) بِنَقْلِ الْهَمْزَةِ، مِنْ وَاضِعِهِ كَمَا وَقَعَ لِأَبِي عِصْمَةَ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ (وَ) كَذَا بِـ (مَا نُزِّلَ مَنْزِلَتَهُ) كَمَا اتَّفَقَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا بِحَضْرَةِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُوبَارِيِّ فِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، [فَرَوَى لَهُمْ بِسَنَدِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَمِعَ الْحَسَنُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ. وَنَحْوُهُ أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْحَارِثِ التَّمِيمِيَّ جَدَّ رِزْقِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَنْبَلِيِّ سُئِلَ عَنْ فَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ: عَنْوَةً، فَطُولِبَ بِالْحُجَّةِ، فَقَالَ: ثَنَا ابْنُ الصَّوَّافِ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي فَتْحِ مَكَّةَ؛ أَكَانَ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً؟ فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: كَانَ عَنْوَةً، هَذَا مَعَ أَنَّهُ اعْتَرَفَ أَنَّهُ صَنَعَهُ فِي الْحَالِ، لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْخَصْمُ. (وَرُبَّمَا يُعْرَفُ بِالرِّكَّةِ) أَيِ: الضَّعْفِ عَنْ قُوَّةِ فَصَاحَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مَعًا، مِثْلُ مَا يُرْوَى فِي وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَا فِي أَحَدِهِمَا، لَكِنَّهُ فِي اللَّفْظِ وَحْدَهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا صَرَّحَ بِأَنَّهُ لَفْظُ الشَّارِعِ، وَلَمْ يَحْصُلِ التَّصَرُّفُ بِالْمَعْنَى فِي نَقْلِهِ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ لَا وَجْهَ لَهُ فِي الْإِعْرَابِ. وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ التَّابِعِيِّ الْجَلِيلِ قَالَ: إِنَّ لِلْحَدِيثِ ضَوْءًا كَضَوْءِ النَّهَارِ يُعْرَفُ، وَظُلْمَةً كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ تُنْكَرُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ: الْحَدِيثُ الْمُنْكَرُ يَقْشَعِرُّ مِنْهُ جِلْدُ طَالِبِ الْعِلْمِ، وَيَنْفِرُ مِنْهُ قَلْبُهُ فِي الْغَالِبِ، وَعَنَى بِذَلِكَ الْمُمَارِسَ لِأَلْفَاظِ الشَّارِعِ، الْخَبِيرَ بِهَا وَبِرَوْنَقِهَا وَبَهْجَتِهَا؛ وَلِذَا قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَكَثِيرًا مَا يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ- أَيْ بِالْوَضْعِ- بِاعْتِبَارِ أُمُورٍ تَرْجِعُ إِلَى الْمَرْوِيِّ وَأَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُمْ- لِكَثْرَةِ مُحَاوَلَةِ أَلْفَاظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَيْئَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ، وَمَلَكَةٌ قَوِيَّةٌ يَعْرِفُونَ بِهَا مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَلْفَاظِ النُّبُوَّةِ، وَمَا لَا يَجُوزُ. انْتَهَى. وَالرِّكَّةُ فِي الْمَعْنَى كَأَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ ضَرُورَةً أَوِ اسْتِدْلَالًا، وَلَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا بِحَالٍ، نَحْوُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَعَنْ نَفْيِ الصَّانِعِ، وَقِدَمِ الْأَجْسَامِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِمَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْلِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكُلُّ حَدِيثٍ رَأَيْتَهُ يُخَالِفُ الْعُقُولَ، أَوْ يُنَاقِضُ الْأُصُولَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، فَلَا تَتَكَلَّفِ اعْتِبَارَهُ، أَيْ: لَا تَعْتَبِرْ رُوَاتَهُ، وَلَا تَنْظُرْ فِي جَرْحِهِمْ. أَوْ يَكُونَ مِمَّا يَدْفَعُهُ الْحِسُّ وَالْمُشَاهَدَةُ، أَوْ مُبَايِنًا لِنَصِّ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، أَوِ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ؛ حَيْثُ لَا يَقْبَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ. أَوْ يَتَضَمَّنَ الْإِفْرَاطَ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَى الْأَمْرِ الْيَسِيرِ، أَوْ بِالْوَعْدِ الْعَظِيمِ عَلَى الْفِعْلِ الْيَسِيرِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ كَثِيرٌ مَوْجُودٌ فِي حَدِيثِ الْقُصَّاصِ وَالطُّرُقِيَّةِ، وَمِنْ رِكَّةِ الْمَعْنَى: “ لَا تَأْكُلُوا الْفَرْعَةَ حَتَّى تَذْبَحُوهَا “، وَلِذَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِ رَاوِيهِ. وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْقَرَائِنِ فِي الْمَرْوِيِّ. وَقَدْ تَكُونُ فِي الرَّاوِي؛ كَقِصَّةِ غَيَّاثٍ مَعَ الْمَهْدِيِّ، وَحِكَايَةِ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ الْمَاضِي ذِكْرُهُمَا، وَاخْتِلَاقِ الْمَأْمُونِ بْنِ أَحْمَدَ الْهَرَوِيِّ- حِينَ قِيلَ لَهُ: أَلَا تَرَى الشَّافِعِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ بِخُرَاسَانَ- ذَاكَ الْكَلَامَ الْقَبِيحَ، حَكَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمَدْخَلِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا قَامَ يَوْمَ جُمُعَةٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَابْتَدَأَ لِيُورِدَهُ، فَسَقَطَ مِنْ قَامَتِهِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. أَوِ انْفِرَادِهِ عَمَّنْ لَمْ يُدْرِكْهُ بِمَا لَمْ يُوجَدْ عِنْدَ غَيْرِهِمَا، أَوِ انْفِرَادِهِ بِشَيْءٍ مِنْ كَوْنِهِ فِيمَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفِينَ عِلْمُهُ، وَقَطْعُ الْعُذْرِ فِيهِ؛ كَمَا قَرَّرَهُ الْخَطِيبُ فِي أَوَّلِ (الْكِفَايَةِ)، أَوْ بِأَمْرٍ جَسِيمٍ تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ؛ كَحَصْرِ الْعَدُوِّ لِلْحَاجِّ عَنِ الْبَيْتِ، أَوْ بِمَا صَرَّحَ بِتَكْذِيبِهِ فِيهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، أَوْ تَقْلِيدُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. (قُلْتُ) وَقَدِ (اسْتَشْكَلَا) التَّقِيُّ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ (الثَّبَجِيُّ) بِمُثَلَّثَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ وَجِيمٍ؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ بِثَبَجِ الْبَحْرِ بِسَاحِلِ يَنْبُعَ مِنَ الْحِجَازِ، فِي كِتَابِهِ (الِاقْتِرَاحِ) مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ أَدِلَّةِ الْوَضْعِ (الْقَطْعَ بِالْوَضْعِ عَلَى مَا) أَيِ: الْمَرْوِيِّ الَّذِي (اعْتَرَفَ الْوَاضِعُ) فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْوَضْعِ بِمُجَرَّدِ الِاعْتِرَافِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ مَعَهُ (إِذْ قَدْ يَكْذِبُ) فِي خُصُوصِ اعْتِرَافِهِ؛ إِمَّا لِقَصْدِ التَّنْفِيرِ عَنْ هَذَا الْمَرْوِيِّ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُورِثُ الرِّيبَةَ وَالشَّكَّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالِاحْتِيَاطُ عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِالْوَضْعِ. (بَلَى نَرُدُّهُ) أَيِ: الْمَرْوِيَّ؛ لِاعْتِرَافِ رَاوِيهِ بِمَا يُوجِبُ فِسْقَهُ (وَعَنْهُ نَضْرِبُ) أَيْ نُعْرِضُ عَنْهُ فَلَا نَحْتَجُّ بِهِ، بَلْ وَلَا نَعْمَلُ بِهِ، وَلَا فِي الْفَضَائِلِ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ. وَنَصُّ (الِاقْتِرَاحِ): “ وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ- أَيْ فِي هَذَا النَّوْعِ- إِقْرَارُ الرَّاوِي بِالْوَضْعِ، وَهَذَا كَافٍ فِي رَدِّهِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ فِي كَوْنِهِ مَوْضُوعًا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكْذِبَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ بِعَيْنِهِ “. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَاطِعٍ هُنَا الْقَطْعَ الْمُطَابِقَ لِلْوَاقِعِ؛ لِمَا تَقَرَّرَ فِي كَوْنِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَغَيْرِهَا إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، لَا مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مُجَرَّدَ الْمَنْعِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ مَوْضُوعًا، وَلَكِنَّ الَّذِي قَرَّرَهُ شَيْخُنَا خِلَافُهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَقَدْ يُعْرَفُ الْوَضْعُ بِإِقْرَارِ وَاضِعِهِ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَكِنْ لَا يُقْطَعُ بِذَلِكَ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كَذَبَ فِي ذَلِكَ الْإِقْرَارِ، قَالَ: وَفَهِمَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ- أَيْ كَابْنِ الْجَزَرِيِّ-، أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ أَصْلًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ، وَإِنَّمَا نَفَى الْقَطْعَ بِذَلِكَ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْقَطْعِ نَفْيُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَقَعُ بِالظَّنِّ الْغَالِبِ، وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا سَاغَ قَتْلُ الْمُقِرِّ بِالْقَتْلِ، وَلَا رَجْمُ الْمُعْتَرِفِ بِالزِّنَا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَا كَاذِبَيْنِ فِيمَا اعْتَرَفَا بِهِ. زَادَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَكَذَا حُكْمُ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ شَهِدَ بِالزُّورِ بِمُقْتَضَى اعْتِرَافِهِ، وَقَالَ أَيْضًا رَدًّا عَلَى مَنْ تَوَقَّفَ فِي كَلَامِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: فِيهِ بَعْضُ مَا فِيهِ، وَنَحْنُ لَوْ فَتَحْنَا بَابَ التَّجْوِيزِ وَالِاحْتِمَالِ، لَوَقَعْنَا فِي الْوَسْوَسَةِ وَغَيْرِهَا- مَا نَصُّهُ: لَيْسَ فِي هَذَا وَسْوَسَةٌ، بَلْ هُوَ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ. وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ نَفَى الْقَطْعَ بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، لَا الْحُكْمَ بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ، فَيُحْكَمُ بِكَوْنِ الْحَدِيثِ مَوْضُوعًا، أَمَّا إِنَّهُ يُقْطَعُ بِذَلِكَ فَلَا. قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ مَا قَرَّرْتُهُ، وَلَا يُنَازِعُ فِيهِ الْفُرُوعُ الْمَذْكُورَةُ. وَكَذَا تَعَقَّبَ شَيْخُنَا شَيْخَهُ الشَّارِحَ؛ حَيْثُ مَثَّلَ فِي النُّكَتِ لِقَوْلِ ابْنِ الصَّلَاحِ: أَوْ مَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ إِقْرَارِهِ، بِمَا إِذَا حَدَّثَ عَنْ شَيْخٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَوْلِدَهُ فِي تَأْرِيخٍ يُعْلَمُ تَأَخُّرُهُ عَنْ وَفَاةِ ذَاكَ الشَّيْخِ؛ لِجَرَيَانِ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُكْذَبَ فِي تَأْرِيخِ مَوْلِدِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُغْلَطَ فِي التَّأْرِيخِ، وَيَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ صَادِقًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ تَنْزِيلَهُ مَنْزِلَتَهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِهِ عَنِ التَّصْرِيحِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا مَثَّلْتُ بِهِ أَوْلَى، فَإِنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ قَوْلٌ أَصْلًا. تَتِمَّةٌ: يَقَعُ فِي كَلَامِهِمُ “ الْمَطْرُوحُ “ وَهُوَ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ جَزْمًا، وَقَدْ أَثْبَتَهُ الذَّهَبِيُّ نَوْعًا مُسْتَقِلًا، وَعَرَّفَهُ بِأَنَّهُ مَا نَزَلَ عَنِ الضَّعِيفِ وَارْتَفَعَ عَنِ الْمَوْضُوعِ، وَمَثَّلَ لَهُ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عَلِيٍّ، وَبِجُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ الْمَتْرُوكُ فِي التَّحْقِيقِ، يَعْنِي الَّذِي زَادَهُ فِي نُخْبَتِهِ وَتَوْضِيحِهَا، وَعَرَّفَهُ بِالْمُتَّهَمِ رَاوِيهِ بِالْكَذِبِ.
242- وَقَسَّمُوا الْمَقْلُوبَ قِسْمَيْنِ إِلَى *** مَا كَانَ مَشْهُورًا بِرَاوٍ أُبْدِلَا 243- بِوَاحِدٍ نَظِيرِهِ كَيْ يَرْغَبَا *** فِيهِ لِلْإِغْرَابِ إِذَا مَا اسْتَغْرَبَا 244- وَمِنْهُ قَلْبُ سَنَدٍ لِمَتْنِ *** نَحْوُ امْتِحَانِهِمْ إِمَامَ الْفَنِّ 245- فِي مِائَةٍ لَمَّا أَتَى بَغْدَادَا *** فَرَدَّهَا وَجَوَّدَ الْإِسْنَادَا 246- وَقَلْبُ مَا لَمْ يَقْصِدِ الرُّوَاةُ *** نَحْوُ: “ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ “ 247- حَدَّثَهُ فِي مَجْلِسِ الْبُنَانِي *** حَجَّاجٌ أَعْنِي ابْنَ أَبِي عُثْمَانِ 248- فَظَنَّهُ عَنْ ثَابِتٍ جَرِيرُ *** بَيَّنَهُ حَمَّادٌ الضَّرِيرُ وَحَقِيقَةُ الْقَلْبِ تَغْيِيرُ مَنْ يُعْرَفُ بِرِوَايَةٍ مَا بِغَيْرِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَمُنَاسَبَتُهُ لِمَا قَبْلَهُ وَاضِحَةٌ؛ لِتَقْسِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى سَنَدٍ وَمَتْنٍ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْمَوْضُوعِ بِخُصُوصِهِ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَدَّمْنَا فِيهِ أَنَّ مِنَ الْوَضَّاعِينَ مَنْ يَحْمِلُهُ الشَّرَهُ وَمَحَبَّةُ الظُّهُورِ لِأَنْ يَقْلِبَ سَنَدًا ضَعِيفًا بِصَحِيحٍ، ثُمَّ تَارَةً يَقْلِبُ جَمِيعَ السَّنَدِ، وَتَارَةً بَعْضَهُ. وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الصُّورَتَيْنِ الْمُزَالُ ضَعِيفًا، بَلْ صَحِيحًا بِصَحِيحٍ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ تَسْمِيَةِ هَذَا كُلِّهِ وَضْعًا وَقَلْبًا، وَلِذَا عَدَّ الشَّارِحُ الْمُغْرِبَ فِي أَصْنَافِ الْوَضَّاعِينَ وَإِنْ شُوحِحَ فِيهِ، وَلَكِنْ قَدْ جَزَمَ شَيْخُنَا بِأَنَّ الْإِغْرَابَ مِنْ أَقْسَامِ الْوَضْعِ. [قَلْبُ السَّنَدِ عَمْدًا وَأَقْسَامُهُ]: (وَقَسَّمُوا) أَيْ: أَهْلُ الْحَدِيثِ (الْمَقْلُوبَ) السَّنَدِيَّ خَاصَّةً لِكَوْنِهِ الْأَكْثَرَ، كَاقْتِصَارِهِمْ فِي الْمَوْضُوعِ عَلَى الْمَتْنِيِّ؛ لِكَوْنِهِ الْأَهَمَّ. (قِسْمَيْنِ) عَمْدًا وَسَهْوًا، وَالْعَمْدُ (إِلَى) قِسْمَيْنِ أَيْضًا مِنْهُ (مَا كَانَ) مَتْنُهُ (مَشْهُورًا بِرَاوٍ) كَسَالِمٍ (أُبْدِلَا بِوَاحِدٍ) مِنَ الرُّوَاةِ (نَظِيرِهِ) فِي الطَّبَقَةِ كَنَافِعٍ (كِي يُرْغَبَا فِيهِ) أَيْ: فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ، وَيَرُوجَ سُوقُهُ بِهِ (لِلْإِغْرَابِ) بِالنَّقْلِ (إِذَا مَا اسْتُغْرِبَا) مِمَّنْ وَقَفَ عَلَيْهِ؛ لِكَوْنِ الْمَشْهُورِ خِلَافَهُ. وَمِمَّنْ كَانَ يَفْعَلُهُ بِهَذَا الْمَقْصِدِ عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو النَّصِيبِيُّ، أَحَدُ الْمَذْكُورِينَ بِالْوَضْعِ، كَمَا وَقَعَ لَهُ؛ حَيْثُ رَوَى الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ بِسُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: “ إِذَا لَقِيتُمُ الْمُشْرِكِينَ فِي طَرِيقٍ، فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ “ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ؛ لِيُغْرِبَ بِهِ، وَهُوَ لَا يُعَرَفُ عَنِ الْأَعْمَشِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْعُقَيْلِيُّ، وَقَدْ قِيلَ فِي فَاعِلِ هَذَا: يَسْرِقُ الْحَدِيثَ، وَرُبَّمَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: مَسْرُوقٌ. وَفِي إِطْلَاقِ السَّرِقَةِ عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي الْمُبْدَلُ بِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مُنْفَرِدًا بِهِ، فَيَسْرِقُهُ الْفَاعِلُ مِنْهُ، وَلِلْخَوْفِ مِنْ هَذِهِ الْآفَةِ كَرِهَ أَهْلُ الْحَدِيثِ تَتَبُّعَ الْغَرَائِبِ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (وَمِنْهُ) وَهُوَ ثَانِي قِسْمَيِ الْعَمْدِ (قَلْبُ سَنَدٍ) تَامٍّ (لِمَتْنٍ) فَيُجْعَلُ لِمَتْنٍ آخَرَ مَرْوِيٍّ بِسَنَدٍ آخَرَ بِقَصْدِ امْتِحَانِ حِفْظِ الْمُحَدِّثِ وَاخْتِبَارِهِ، هَلِ اخْتَلَطَ أَمْ لَا؟ كَمَا اتَّفَقَ لَهُمْ مَعَ أَبِي إِسْحَاقَ الْهُجَيْمِيِّ حِينَ جَازَ الْمِائَةَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي آدَابِ الْمُحَدِّثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهَلْ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ الَّذِي هُوَ قَبُولُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ؛ كَالصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ أَمْ لَا؟ لِأَنَّهُ إِنْ وَافَقَ عَلَى الْقَلْبِ فَغَيْرُ حَافِظٍ أَوْ مُخْتَلِطٌ، أَوْ خَالَفَ فَضَابِطٌ. [امْتِحَانُ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ]:(نَحْوُ امْتِحَانِهِمْ) أَيِ: الْمُحَدِّثِينَ بِبَغْدَادَ (إِمَامَ الْفَنِّ) وَشَيْخَ الصَّنْعَةِ الْبُخَارِيَّ، صَاحِبَ الصَّحِيحِ، (فِي مِائَةٍ) مِنَ الْحَدِيثِ (لَمَّا أَتَى) إِلَيْهِمْ (بَغْدَادَا) بِالْمُهْمَلَةِ آخِرُهُ عَلَى إِحْدَى اللُّغَاتِ؛ حَيْثُ اجْتَمَعُوا عَلَى تَقْلِيبِ مُتُونِهَا وَأَسَانِيدِهَا، وَصَيَّرُوا مَتْنَ هَذَا السَّنَدِ لِسَنَدٍ آخَرَ، وَسَنَدَ هَذَا الْمَتْنِ لِمَتْنٍ آخَرَ، وَانْتَخَبُوا عَشْرَةً مِنَ الرِّجَالِ، فَدَفَعُوا لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنْهَا عَشْرَةً، وَتَوَاعَدُوا كُلُّهُمْ عَلَى الْحُضُورِ لِمَجْلِسِ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ يُلْقِي عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ أَحَادِيثَهُ بِحَضْرَتِهِمْ. فَلَمَّا حَضَرُوا وَاطْمَأَنَّ الْمَجْلِسُ بِأَهْلِهِ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْغُرَبَاءِ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمْ، تَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مِنَ الْعَشَرَةِ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَحَادِيثِهِ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَالْبُخَارِيُّ يَقُولُ لَهُ فِي كُلٍّ مِنْهَا: لَا أَعْرِفُهُ. وَفَعَلَ الثَّانِي كَذَلِكَ إِلَى أَنِ اسْتَوْفَى الْعَشَرَةَ الْمِائَةَ، وَهُوَ لَا يَزِيدُ فِي كُلٍّ مِنْهَا عَلَى قَوْلِهِ: لَا أَعْرِفُهُ، فَكَانَ الْفُهَمَاءُ مِمَّنْ حَضَرَ يَلْتَفِتُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَيَقُولُونَ: فَهِمَ الرَّجُلُ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْعَجْزِ وَالتَّقْصِيرِ وَقِلَّةِ الْفَهْمِ؛ لِكَوْنِهِ عِنْدَهُ لِمُقْتَضَى عَدَمِ تَمْيِيزِهِ لَمْ يَعْرِفْ وَاحِدًا مِنْ مِائَةٍ. وَلَمَّا فَهِمَ الْبُخَارِيُّ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ انْتِهَاءَهُمْ مِنْ مَسْأَلَتِهِمُ، الْتَفَتَ لِلسَّائِلِ الْأَوَّلِ، وَقَالَ لَهُ: سَأَلْتَ عَنْ حَدِيثِ كَذَا وَصَوَابُهُ كَذَا، إِلَى آخِرِ أَحَادِيثِهِ، وَهَكَذَا الْبَاقِي (فَرَدَّهَا) أَيِ: الْمِائَةَ إِلَى حُكْمِهَا الْمُعْتَبَرِ قَبْلَ الْقَلْبِ (وَجَوَّدَ الْإِسْنَادَا) وَلَمْ يَرُجْ عَلَيْهِ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ مِمَّا قَلَبُوهُ وَرَكَّبُوهُ، فَأَقَرَّ لَهُ النَّاسُ بِالْحِفْظِ، وَعَظُمَ عِنْدَهُمْ جِدًّا، وَعَرَفُوا مَنْزِلَتَهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَأَذْعَنُوا لَهُ. رُوِّينَاهَا فِي مَشَايِخِ الْبُخَارِيِّ لِأَبِي أَحْمَدَ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ عِدَّةَ مَشَايِخَ يَحْكُونَ، وَذَكَرَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَدِيٍّ رَوَاهَا الْخَطِيبُ فِي تَأْرِيخِهِ وَغَيْرُهُ، وَلَا يَضُرُّ جَهَالَةُ شُيُوخِ ابْنِ عَدِيٍّ فِيهَا؛ فَإِنَّهُمْ عَدَدٌ يَنْجَبِرُ بِهِ جَهَالَتُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْ حِفْظِ الْبُخَارِيِّ لَهَا، وَتَيَقُّظِهِ لِتَمَيُّزِ صَوَابِهَا مِنْ خَطَئِهَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْحِفْظِ بِمَكَانٍ، وَإِنَّمَا يُتَعَجَّبُ مِنْ حِفْظِهِ لِتَوَالِيهَا؛ كَمَا أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ قَالَ الْعِجْلِيُّ: مَا خَلَقَ اللَّهُ أَحَدًا كَانَ أَعْرِفَ بِالْحَدِيثِ مِنَ ابْنِ مَعِينٍ، لَقَدْ كَانَ يُؤْتَى بِالْأَحَادِيثِ قَدْ خُلِطَتْ وَقُلِبَتْ، فَيَقُولُ: هَذَا كَذَا، وَهَذَا كَذَا، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ. فِي تَرْجَمَةِ الْعُقَيْلِيِّ مِنَ (الصِّلَةِ) لِمَسْلَمَةَ بْنِ قَاسِمٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يُخْرِجُ أَصْلَهُ لِمَنْ يَجِيئُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، بَلْ يَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ فِي كِتَابِكَ فَأَنْكَرْنَا- أَهْلَ الْحَدِيثِ- ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَنَا عَلَيْهِ، وَقُلْنَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ أَوْ مِنْ أَكْذَبِهِمْ. ثُمَّ عَمَدْنَا إِلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثَ مِنْ رِوَايَتِهِ بَعْدَ أَنْ بَدَّلْنَا مِنْهَا أَلْفَاظًا، وَزِدْنَا فِيهَا أَلْفَاظًا، وَتَرَكْنَا مِنْهَا أَحَادِيثَ صَحِيحَةً، وَأَتَيْنَاهُ بِهَا وَالْتَمَسْنَا مِنْهُ سَمَاعَهَا، فَقَالَ لِي: اقْرَأْ فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَطِنَ وَأَخَذَ فِي الْكِتَابِ فَأَلْحَقَ فِيهِ بِخَطِّهِ النَّقْصَ، وَضَرَبَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَصَحَّحَهَا كَمَا كَانَتْ، ثُمَّ قَرَأَهَا عَلَيْنَا فَانْصَرَفْنَا وَقَدْ طَابَتْ أَنْفُسُنَا، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ الْقُصَّاصَ لَا يَحْفَظُونَ الْحَدِيثَ، فَكُنْتُ أَقْلِبُ عَلَى ثَابِتٍ الْحَدِيثَ، أَجْعَلُ أَنَسًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَابْنَ أَبِي لَيْلَى لِأَنَسٍ أُشَوِّشُهَا عَلَيْهِ، فَيَجِيءُ بِهَا عَلَى الِاسْتِوَاءِ. وَحَكَى الْعِمَادُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: أَتَى صَاحِبُنَا ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي عَلَى الْمِزِّيِّ، فَقَالَ لَهُ: انْتَخَبْتُ مِنْ رِوَايَتِكَ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا أُرِيدُ قِرَاءَتَهَا عَلَيْكَ، فَقَرَأَ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ، وَكَانَ الشَّيْخُ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الثَّانِي تَبَسَّمَ، وَقَالَ: مَا هُوَ أَنَا، ذَاكَ الْبُخَارِيُّ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَكَانَ قَوْلُهُ هَذَا عِنْدَنَا أَحْسَنَ مِنْ رَدِّهِ كُلَّ مَتْنٍ إِلَى سَنَدِهِ. وَقَالَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الدُّوَانِيُّ: اجْتَمَعْتُ بِالْأَمِيرِ أَبِي نَصْرِ بْنِ مَاكُولَا، فَقَالَ لِي: خُذْ جُزْأَيْنِ مِنَ الْحَدِيثِ وَاجْعَلْ مَتْنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي هَذَا الْجُزْءِ عَلَى إِسْنَادِ الَّذِي فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، حَتَّى أَرُدَّهُ إِلَى حَالَتِهِ الْأُولَى مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ. وَرُبَّمَا يُقْصَدُ بِقَلْبِ السَّنَدِ كُلِّهِ الْإِغْرَابَ أَيْضًا؛ إِذْ لَا انْحِصَارَ لَهُ فِي الرَّاوِي الْوَاحِدِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُقْصَدُ الِامْتِحَانُ بِقَلْبِ رَاوٍ وَاحِدٍ. [حُكْمُ الْقَلْبِ لِلِامْتِحَانِ]: وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ فَمِمَّنِ اسْتَعْمَلَهُ بِهَذَا الْمَقْصِدِ سِوَى مَنْ حَكَيْنَاهُ عَنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَشُعْبَةُ، وَأَكْثَرَ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ حَرَمِيٌّ لَمَّا حَدَّثَهُ بَهْزٌ أَنَّهُ قَلَبَ أَحَادِيثَ عَلَى أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، فَقَالَ: يَا بِئْسَ مَا صَنَعَ، وَهَذَا يَحِلُّ؟ وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ- كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا-: لَا أَسْتَحِلُّهُ، وَكَأَنَّهُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ تَغْلِيظِ مَنْ يَمْتَحِنُهُ وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَى رِوَايَتِهِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ صَوَابٌ، وَقَدْ يَسْمَعُهُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ فَيَرْوِيهِ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ صَوَابٌ. وَاشْتَدَّ غَضَبُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَلَى مَنْ فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، فَرُوِّينَا فِي الْمُحَدِّثِ الْفَاصِلِ لِلرَّامَهُرْمُزِيِّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ قَالَ: قَدِمْتُ الْكُوفَةَ، وَبِهَا ابْنُ عَجْلَانَ، وَبِهَا مِمَّنْ يَطْلُبُ الْحَدِيثَ مَلِيحُ بْنُ الْجَرَّاحِ أَخُو وَكِيعٍ، وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَيُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ، فَكُنَّا نَأْتِي ابْنَ عَجْلَانَ، فَقَالَ يُوسُفُ: هَلُمَّ نَقْلِبُ عَلَيْهِ حَدِيثَهُ حَتَّى نَنْظُرَ فَهْمَهُ. قَالَ: فَفَعَلُوا، فَمَا كَانَ عَنْ أَبِيهِ جَعَلُوهُ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، وَمَا كَانَ عَنْ سَعِيدٍ جَعَلُوهُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ يَحْيَى: فَقُلْتُ لَهُمْ: لَا أَسْتَحِلُّ هَذَا، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَأَعْطُوهُ الْجُزْءَ فَمَرَّ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ آخِرِ الْكِتَابِ انْتَبَهَ، فَقَالَ أَعِدْ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا كَانَ عَنْ أَبِي فَهُوَ عَنْ سَعِيدٍ، وَمَا كَانَ عَنْ سَعِيدٍ فَهُوَ عَنْ أَبِي. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى يُوسُفَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ شَيْنِي وَعَيْبِي فَسَلَبَكَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، وَقَالَ لِحَفْصٍ: فَابْتَلَاكَ اللَّهُ فِي دِينِكَ وَدُنْيَاكَ، وَقَالَ لِمَلِيحٍ: لَا نَفَعَكَ اللَّهُ بِعِلْمِكَ. قَالَ يَحْيَى: فَمَاتَ مَلِيحٌ قَبْلَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِعِلْمِهِ، وَابْتُلِيَ حَفْصٌ فِي بَدَنِهِ بِالْفَالِجِ وَفِي دِينِهِ بِالْقَضَاءِ، وَلَمْ يَمُتْ يُوسُفُ حَتَّى اتُّهِمَ بِالزَّنْدَقَةِ. وَكَذَا اشْتَدَّ غَضَبُ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمَنْصُورِ الرَّمَادِيُّ: خَرَجْتُ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ إِلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْدُمُهُمَا، فَلَمَّا عُدْنَا إِلَى الْكُوفَةِ، قَالَ يَحْيَى لِأَحْمَدَ: أُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِرَ أَبَا نُعَيْمٍ، فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: لَا تَفْعَلْ، الرَّجُلُ ثِقَةٌ، فَقَالَ: لَا بُدَّ لِي. فَأَخَذَ وَرَقَةً فَكَتَبَ فِيهَا ثَلَاثِينَ حَدِيثًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ عَشْرَةٍ مِنْهَا حَدِيثًا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ، ثُمَّ جَاءُوا إِلَى أَبِي نُعَيْمٍ، فَخَرَجَ فَجَلَسَ عَلَى دُكَّانٍ، فَأَخْرَجَ يَحْيَى الطَّبَقَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ عَشْرَةً، ثُمَّ قَرَأَ الْحَادِي عَشَرَ، فَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: لَيْسَ مِنْ حَدِيثِي، اضْرِبْ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَرَأَ الْعَشَرَ الثَّانِيَ وَأَبُو نُعَيْمٍ سَاكِتٌ، فَقَرَأَ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ: فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ حَدِيثِي، اضْرِبْ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَرَأَ الْعَشَرَ الثَّالِثَ، وَقَرَأَ الْحَدِيثَ الثَّالِثَ، فَانْقَلَبَتْ عَيْنَاهُ وَأَقْبَلَ عَلَى يَحْيَى فَقَالَ: أَمَّا هَذَا- وَذِرَاعُ أَحْمَدَ فِي يَدِهِ- فَأَوْرَعُ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ هَذَا، وَأَمَّا هَذَا، يُرِيدُنِي، فَأَقَلُّ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ هَذَا، وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِكَ يَا فَاعِلُ! ثُمَّ أَخْرَجَ رِجْلَهُ فَرَفَسَهُ فَرَمَى بِهِ، وَقَامَ فَدَخَلَ دَارَهُ. فَقَالَ أَحْمَدُ لِيَحْيَى: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: إِنَّهُ ثَبْتٌ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لَرَفْسَتُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سُفْرَتِي. وَقَالَ الشَّارِحُ: وَفِي جَوَازِهِ نَظَرٌ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ لَا يَسْتَقِرُّ حَدِيثًا. قُلْتُ: إِلَّا فِي النَّادِرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا: إِنَّ مَصْلَحَتَهُ- أَيِ: الَّتِي مِنْهَا مَعْرِفَةُ رُتْبَتِهِ فِي الضَّبْطِ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ- أَكْثَرُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ، قَالَ: وَشَرْطُهُ- أَيِ: الْجَوَازِ، أَلَّا يَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ، بَلْ يَنْتَهِيَ بِانْتِهَاءِ الْحَاجَةِ. [قَلْبُ السَّنَدِ سَهْوًا وَأَمْثِلَتُهُ]: وَالْقِسْمُ الثَّانِي (قَلْبُ مَا لَمْ يَقْصِدِ الرُّوَاةُ) قَلْبَهُ، بَلْ وَقَعَ الْقَلْبُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ وَالْوَهْمِ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ (نَحْوُ) حَدِيثِ: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي. فَإِنَّهُ (حَدَّثَهُ) أَيِ: الْحَدِيثَ (فِي مَجْلِسِ) أَبِي مُحَمَّدٍ ثَابِتِ بْنِ أَسْلَمَ الْبَصْرِيِّ (الْبُنَانِيِّ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ نِسْبَةً لِمَحِلَّةٍ بِالْبَصْرَةِ عُرِفَ بِبُنَانَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ لُؤَيٍّ (حَجَّاجٌ أَعْنِي) بِالنَّقْلِ وَالتَّنْوِينِ (ابْنَ أَبِي عُثْمَانِ) بِالصَّرْفِ، هُوَ الصَّوَّافُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (فَظَنَّهُ) أَيِ الْحَدِيثَ (عَنْ ثَابِتٍ) أَبُو النَّضْرِ (جَرِيرُ) بْنُ حَازِمٍ، وَرَوَاهُ جَرِيرٌ بِمُقْتَضَى هَذَا الظَّنِّ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، كَمَا (بَيَّنَهُ حَمَّادٌ) وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ (الضَّرِيرُ) فِيمَا وَصَفَهُ بِهِ ابْنُ مَنْجَوَيْهِ وَابْنُ حِبَّانَ، وَهُوَ مِمَّا طَرَأَ عَلَيْهِ، لِمَا حَكَاهُ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنَّ إِنْسَانًا سَأَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ: أَكَانَ حَمَّادٌ أُمِّيًّا؟ فَقَالَ: أَنَا رَأَيْتُهُ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ وَهُوَ يَكْتُبُ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ لِيَجِفَّ. وَالرَّاوِي عَنْ حَمَّادٍ لَمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ مِنْ غَلَطِ جَرِيرٍ إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ الطِّبَاعِ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْعِلَلِ عَنْهُ، وَكَمَا عِنْدَ الْخَطِيبِ فِي الْكِفَايَةِ، وَالْبَيْهَقِيِّ فِي الْمَدْخَلِ، وَيَحْيَى بْنِ حَسَّانَ كَمَا عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ كِلَاهُمَا، وَاللَّفْظُ لِأَوَّلِهِمَا. عَنْ حَمَّادٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَرِيرٌ عِنْدَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَ حَجَّاجٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ نَعْنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدِّمِ، فَظَنَّ جَرِيرٌ أَنَّهُ فِيمَا حَدَّثَ بِهِ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ، يَعْنِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي الْكَلَامِ بَعْدَ نُزُولِ الْإِمَامِ مِنَ الْمِنْبَرِ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ مِنْ (جَامِعِهِ)، وَيُرْوَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَ حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ، وَذَكَرَهُ. وَكَذَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ كُلِّ ذِي خَطْفَةٍ، وَعَنْ كُلِّ ذِي نُهْبَةٍ، وَعَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ، رَوَاهُ أَبُو أَيُّوبَ الْإِفْرِيقِيُّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ سَعِيدٌ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَإِنَّمَا حَدَّثَ بِهِ رَجُلٌ فِي مَجْلِسِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، فَسَمِعَهُ أَصْحَابُ سَعِيدٍ مِنْهُ. قَالَ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنَ الْمُنْبَعِثِ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنِ الضَّبُعِ، فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَهُ: ثَنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ فَذَكَرَهُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَهَذَا أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَنَحْوُهُ أَنَّ ابْنَ عَجْلَانَ رَوَى عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: “ الدِّينُ النَّصِيحَةُ “. فَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ: إِنَّهُ غَلَطٌ، وَإِنَّمَا حَدَّثَ أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثِ: “ إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا “ وَكَانَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ حَاضِرًا، فَحَدَّثَهُمْ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ بِحَدِيثِ: “ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةَ “، فَسَمِعَهُمَا سُهَيْلٌ مِنْهُمَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِي حَدِيثٍ. وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَا يَقَعُ الْغَلَطُ فِيهِ بِالتَّقْدِيمِ فِي الْأَسْمَاءِ وَالتَّأْخِيرِ؛ كَمُرَّةَ بْنَ كَعْبٍ فَيَجْعَلُهُ كَعْبَ بْنَ مُرَّةَ، وَمُسْلِمِ بْنِ الْوَلِيدِ فَيَجْعَلُهُ الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَهُ كَوْنُ اسْمِ أَحَدِهِمَا اسْمَ أَبِي الْآخَرِ، وَقَدْ صَنَّفَ كُلٌّ مِنَ الْخَطِيبِ وَشَيْخِنَا فِي هَذَا الْقِسْمِ خَاصَّةً. [كِتَابَا الْخَطِيبِ وَابْنِ حَجَرٍ عَنِ الْمَقْلُوبِ]: فَأَمَّا الْخَطِيبُ فَفِيمَا كَانَ مِنْ نَمَطِ الْمِثَالِ الْأَخِيرِ فَقَطْ، وَسَمَّاهُ (رَافِعَ الِارْتِيَابِ فِي الْمَقْلُوبِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَنْسَابِ)، وَهُوَ فِي مُجَلَّدٍ ضَخْمٍ، وَأَمَّا شَيْخُنَا فَإِنَّهُ أَفْرَدَ مِنْ عِلَلِ الدَّارَقُطْنِيِّ مَعَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ مَا كَانَ مِنْ نَمَطِ الْمَثَّالَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ، وَسَمَّاهُ (جَلَاءَ الْقُلُوبِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَقْلُوبِ). وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَنْ أَفْرَدَهُ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ بِحَيْثُ أَدَّى الْإِخْلَالُ بِهِ إِلَى عَدِّ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ أَحَادِيثَ إِذَا وَقَعَ الْقَلْبُ فِي الصَّحَابِيِّ، وَيُوجَدُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ التِّرْمِذِيِّ، فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُ، حَيْثُ يُقَالُ: وَفِي الْبَابِ عَنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، وَيَكُونُ الْوَاقِعُ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ اخْتُلِفَ عَلَى رَاوِيهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْقُدَمَاءِ يُبَالِغُ فِي عَيْبِ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ، فَرُوِّينَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “ لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جَرَسٌ “. فَقُلْتُ لَهُ: تَعِسْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ- أَيْ: عَثَرْتَ- فَقَالَ: كَيْفَ هُوَ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي الْجَرَّاحِ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى عِظَمِ دِينِ الثَّوْرِيِّ وَتَوَاضُعِهِ وَإِنْصَافِهِ، وَعَلَى قُوَّةِ حَافِظَةِ تِلْمِيذِهِ الْقَطَّانِ وَجُرْأَتِهِ عَلَى شَيْخِهِ حَتَّى خَاطَبَهُ بِذَلِكَ، وَنَبَّهَهُ عَلَى عُثُورِهِ حَيْثُ سَلَكَ الْجَادَّةَ؛ لِأَنَّ جُلَّ رِوَايَةِ نَافِعٍ هِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَكَانَ قَوْلُ الَّذِي يَسْلُكُ غَيْرَهَا إِذَا كَانَ ضَابِطًا أَرْجَحَ. وَكَذَا خَطَّأَ يَحْيَى الْقَطَّانُ شُعْبَةَ حَيْثُ حَدَّثُوهُ بِحَدِيثِ: “ لَا يَجِدُ عَبْدٌ طَعْمَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ “ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ: حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَلَا يَتَأَتَّى لِيَحْيَى أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شُعْبَةَ بِالْخَطَأِ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَيَقَّنَ الصَّوَابَ فِي غَيْرِ رِوَايَتِهِ، فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يَسْتَرْوِحُ فَيَقُولُ مَثَلًا: يُحْتَمِلُ يَكُونُ عِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، فَحَدَّثَ بِهِ كُلَّ مَرَّةٍ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ عَنِ التَّحْقِيقِ، إِلَّا أَنْ جَاءَتْ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَارِثِ يَجْمَعُهُمَا، وَمَدَارُ الْأَمْرِ عِنْدَ أَئِمَّةِ هَذَا الْفَنِّ عَلَى مَا يَقْوَى فِي الظَّنِّ. أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْمَرْجُوحُ فَلَا تَعْوِيلَ عِنْدَهُمْ عَلَيْهِ. انْتَهَى. مَعَ زِيَادَةٍ وَحَذْفٍ، وَاخْتَارَ فِي تَسْمِيَةِ قِسْمَيِ الْعَمْدِ الْإِبْدَالَ لَا الْقَلْبَ. وَأَمَّا ابْنُ الْجَزَرِيِّ فَقَالَ فِي الثَّانِي: إِنَّهُ عِنْدِي بِالْمُرَكَّبِ أَشْبَهُ، وَجَعَلَهُ نَوْعًا مُسْتَقِلًا. [قَلْبُ الْمَتْنِ وَأَمْثِلَتُهُ] وَأَمَّا قَلْبُ الْمَتْنِ فَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُعْطَى أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ مَا اشْتُهِرَ لِلْآخَرِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ الْجَزَرِيِّ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ فَيَنْقَلِبُ بَعْضُ لَفْظِهِ عَلَى الرَّاوِي، فَيَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ وَرُبَّمَا انْعَكَسَ، وَجَعَلَهُ نَوْعًا مُسْتَقِلًا سَمَّاهُ الْمُنْقَلِبَ، فَاجْتَمَعَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَقْسَامٌ. وَأَمْثِلَتُهُ فِي الْمَتْنِ قَلِيلَةٌ؛ كَحَدِيثِ: “ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ “؛ فَإِنَّهُ جَاءَ مَقْلُوبًا بِلَفْظِ: “ حَتَّى لَا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ “. وَمَا اعْتَنَى بِجَمْعِهَا، بَلْ وَلَا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا إِلَّا أَفْرَادٌ مِنْهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْجَلَالُ بْنُ الْبَلْقِينِيِّ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَنَظَمَهَا فِي أَبْيَاتٍ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ تَبَعًا لِمَحَاسِنِ وَالِدِهِ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- حَدِيثُ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: “ إِنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ بِلَالٌ “ فَهُوَ مَقْلُوبٌ؛ إِذِ الصَّحِيحُ فِي لَفْظِهِ عَنْ عَائِشَةَ: “ إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ “ الْحَدِيثَ. وَكَذَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَرْتَضِ الْبَلْقِينِيُّ جَمْعَ ابْنِ خُزَيْمَةَ بَيْنَهُمَا، بِتَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَعَلَ أَذَانَ اللَّيْلِ نُوَبًا بَيْنَهُمَا، فَجَاءَ الْخِبْرَانِ عَلَى حَسَبِ الْحَالَيْنِ، وَإِنْ تَابَعَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَلَيْهِ، بَلْ بَالَغَ فَجَزَمَ بِهِ. وَقَالَ الْبَلْقِينِيُّ: إِنَّهُ بَعِيدٌ، وَلَوْ فَتَحْنَا بَابَ التَّأْوِيلِ، لَانْدَفَعَ كَثِيرٌ مِنْ عِلَلِ الْمُحَدِّثِينَ. وَأَمَّا شَيْخُنَا فَمَالَ إِلَى ضَعْفِ رِوَايَةِ الْقَلْبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: الْمَحْفُوظُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ [وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ]، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: (ارْتَقَيْتُ فَوْقَ بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ). فَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مُعْتَمَدَةٍ قَدِيمَةٍ جِدًّا مِنْ طَرِيقِ وُهَيْبٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بِلَفْظِ: (مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، مُسْتَدْبِرَ الشَّامِ)؛ رَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ وُهَيْبٍ، وَهُوَ مَقْلُوبٌ. قَدْ رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُسْتَخْرَجِهِ عَنْ أَبِي يَعْلَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: (مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ) كَالْجَادَّةِ، فَانْحَصَرَ فِي الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ أَوِ ابْنِ حِبَّانَ.
249- وَإِنْ تَجِدْ مَتْنًا ضَعِيفَ السَّنَدِ *** فَقُلْ: ضَعِيفٌ أَيْ بِهَذَا فَاقْصِدِ 250- وَلَا تُضَعِّفْ مُطْلَقًا بِنَاءً *** عَلَى الطَّرِيقِ إِذْ لَعَلَّ جَاءَ 251- بِسَنَدٍ مُجَوَّدٍ بَلْ يَقِفُ *** ذَاكَ عَلَى حُكْمِ إِمَامٍ يَصِفُ 252- بَيَانَ ضَعْفِهِ فَإِنْ أَطْلَقَهُ *** فَالشَّيْخُ فِيمَا بَعْدَهُ حَقَّقَهُ 253- وَإِنْ تُرِدْ نَقْلًا لِوَاهٍ أَوْ لِمَا *** يُشَكُّ فِيهِ لَا بِإِسْنَادِهِمَا 254- فَأْتِ بِتَمْرِيضٍ كَيُرْوَى وَاجْزِمِ بِنَقْلِ مَا صَحَّ كَقَالَ فَاعْلَمِ 255- وَسَهَّلُوا فِي غَيْرِ مَوْضُوعٍ رَوَوْا *** مِنْ غَيْرِ تَبْيِينٍ لِضَعْفٍ وَرَأَوْا 256- بَيَانَهُ فِي الْحُكْمِ وَالْعَقَائِدِ *** عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَغَيْرِ وَاحِدِ
تَنْبِيهَاتٌ: ثَلَاثَةٌ، إِرْدَافُ أَنْوَاعِ الضَّعِيفِ بِهَا مُنَاسِبٌ، كَمَا أَرْدَفَ الصَّحِيحَ وَالْحَسَنَ بِمَا يُنَاسِبُهُمَا، لَكِنْ كَانَ جَمْعُ أُولَيْهِمَا بِمَكَانٍ وَاحِدٍ؛ لِكَوْنِهِمَا كَالْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ أَنْسَبَ. أَحَدُهَا: (وَإِنْ تَجِدْ مَتْنًا) أَيْ: حَدِيثًا (ضَعِيفَ السَّنَدِ فَقُلْ) فِيهِ: هُوَ (ضَعِيفٌ أَيْ: بِهَذَا) السَّنَدِ بِخُصُوصِهِ (فَاقْصِدْ) أَيِ: انْوِ ذَاكَ، فَإِنْ صَرَّحْتَ بِهِ فَأَوْلَى (وَلَا تُضَعِّفْ) ذَلِكَ الْمَتْنَ (مُطْلَقًا بِنَاءَ) بِالْمَدِّ (عَلَى) ضَعْفِ ذَاكَ (الطَّرِيقِ إِذْ لَعَلَّـ) ـهُ (جَاءَ) بِالْمَدِّ أَيْضًا (بِسَنَدٍ) آخَرَ (مُجَوَّدٍ) يَثْبُتُ الْمَتْنُ بِمِثْلِهِ أَوْ بِمَجْمُوعِهِمَا. (بَلْ يَقِفُ) جَوَازُ (ذَاكَ) أَيِ: الْإِطْلَاقِ (عَلَى حُكْمِ إِمَامٍ) مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، صَحِيحِ الِاطِّلَاعِ، مُعْتَبَرِ الِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّتَبُّعِ (يَصِفُ بَيَانَ) وَجْهِ (ضَعْفِهِ) أَيِ: الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ يَثْبُتُ هَذَا الْمَتْنُ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ بِشُذُوذٍ أَوْ نَكَارَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا. (فَإِنْ أَطْلَقَهُ) أَيْ: أَطْلَقَ ذَاكَ الْإِمَامُ الضَّعِيفُ (فَالشَّيْخُ) ابْنُ الصَّلَاحِ (فِيمَا بَعْدَهُ) بِيَسِيرٍ، ذَيَّلَ مَسْأَلَةَ كَوْنِ الْجَرْحِ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مُفَسَّرًا قَدْ (حَقَّقَهُ). ثُمَّ إِنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَمْ يَفْحَصْ عَنِ الطُّرُقِ وَيَبْحَثْ عَنْهَا، أَوْ مُطْلَقًا كَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا، حَيْثُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَشَى عَلَى أَصْلِهِ فِي تَعَذُّرِ اسْتِقْلَالِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْحُكْمِ عَلَى الْحَدِيثِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَالْحَقُّ خِلَافُهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْحَافِظُ الْمُتَأَهِّلُ الْجُهْدَ، وَبَذَلَ الْوُسْعَ فِي التَّفْتِيشِ عَلَى ذَلِكَ الْمَتْنِ مِنْ مَظَانِّهِ، فَلَمْ يَجِدْهُ إِلَّا مِنْ تِلْكَ الطَّرِيقِ الضَّعِيفَةِ- سَاغَ لَهُ الْحُكْمُ بِالضَّعْفِ بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ ظَنِّهِ، وَكَذَا إِذَا وُجِدَ جَزْمُ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ رَاوِيَهُ الْفُلَانِيَّ تَفَرَّدَ بِهِ، وَعَرَفَ الْمُتَأَخِّرُ أَنَّ ذَاكَ الْمُتَفَرِّدَ قَدْ ضُعِّفَ بِقَادِحٍ أَيْضًا. وَوَرَاءَ هَذَا أَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ يَكْفِي فِي الْمُنَاظَرَةِ تَضْعِيفُ الطَّرِيقِ الَّتِي أَبْدَاهَا الْمَنَاظِرُ وَيَنْقَطِعُ؛ إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَاهَا حَتَّى يَثْبُتَ بِطَرِيقٍ أُخْرَى، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ. ثَانِيهَا: (وَإِنْ تُرِدْ نَقْلًا لِـ) حَدِيثٍ (وَاهٍ) يَعْنِي ضَعِيفًا، قَلَّ الضَّعْفُ أَوْ كَثُرَ، مَا لَمْ يَبْلُغِ الْوَضْعَ (أَوْ لَمَا يُشَكُّ) مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ (فِيهِ) أَصَحِيحٌ أَوْ ضَعِيفٌ، إِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي رَاوِيهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، (لَا بِـ) إِبْرَازِ (إِسْنَادِهِمَا) أَيِ: الْمَشْكُوكِ فِيهِ وَالْمَجْزُومِ بِهِ، بَلْ بِمُجَرَّدِ إِضَافَتِهِمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إِلَى الصَّحَابِيِّ، أَوْ مَنْ دُونَهُ؛ بِحَيْثُ يَشْمَلُ الْمُعَلَّقَ. (فَأْتِ بِتَمْرِيضٍ كَيُرْوَى) وَيُذْكَرُ وَبَلَغَنَا وَرَوَى بَعْضُهُمْ، وَنَحْوِهَا مِنْ صِيَغِ التَّمْرِيضِ الَّتِي اكْتُفِيَ بِهَا عَنِ التَّصْرِيحِ بِالضَّعْفِ، وَلَا تَجْزِمْ بِنَقْلِهِ خَوْفًا مِنَ الْوَعِيدِ، وَاحْتِيَاطًا، فَإِنْ سُقْتَ إِسْنَادَهُمَا فَيُؤْخَذُ حُكْمُهُ مِمَّا بَعْدَهُ (وَاجْزِمْ) فِيمَا تُورِدُهُ لَا بِسَنَدٍ (بِنَقْلِ مَا صَحَّ) بِالصِّيَغِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْجَزْمِ. (كَقَالَ) وَنَحْوِهَا (فَاعْلَمِ) ذَلِكَ وَلَا تَنْقُلْهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ، وَإِنْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَاسْتَحْضِرْ مَا أَسْلَفْتُهُ لَكَ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ التَّعْلِيقِ. ثَالِثُهَا: (وَسَهَّلُوا فِي غَيْرِ مَوْضُوعٍ رَوَوْا) حَيْثُ اقْتَصَرُوا عَلَى سِيَاقِ إِسْنَادِهِ (مِنْ غَيْرِ تَبْيِينٍ لِضَعْفٍ)، لَكِنْ فِيمَا يَكُونُ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مِنَ الْمَوَاعِظِ، وَالْقِصَصِ، وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ خَاصَّةً (وَرَأَوْا بَيَانَهُ) وَعَدَمَ التَّسَاهُلِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ سَاقُوا إِسْنَادَهُ (فِي) أَحَادِيثَ (الْحُكْمِ) الشَّرْعِيِّ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَغَيْرِهِمَا. (وَ) كَذَا فِي الْعَقَائِدِ كَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَجُوزُ لَهُ، وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِذَا كَانَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ إِذَا رَوَى حَدِيثًا ضَعِيفًا قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ مَعَ الْبَرَاءَةِ مِنْ عُهْدَتِهِ، وَرُبَّمَا قَالَ هُوَ وَالْبَيْهَقِيُّ: إِنْ صَحَّ الْخَبَرُ. وَهَذَا التَّسَاهُلُ وَالتَّشْدِيدُ مَنْقُولٌ (عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ) عَبْدِ الرَّحْمَنِ (وَغَيْرِ وَاحِدٍ) مِنَ الْأَئِمَّةِ؛ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَابْنِ مَعِينٍ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَالسُّفْيَانَيْنِ؛ بِحَيْثُ عَقَدَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي مُقَدِّمَةِ (كَامِلِهِ)، وَالْخَطِيبُ فِي كِفَايَتِهِ لِذَلِكَ بَابًا. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: “ أَحَادِيثُ الْفَضَائِلِ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى مَنْ يُحْتَجُّ بِهِ “. وَقَالَ الْحَاكِمُ: سَمِعْتُ أَبَا زَكَرِيَّا الْعَنْبَرِيَّ يَقُولُ: “ الْخَبَرُ إِذَا وَرَدَ لَمْ يُحَرِّمْ حَلَالًا، وَلَمْ يُحِلَّ حَرَامًا، وَلَمْ يُوجِبْ حُكْمًا، وَكَانَ فِي تَرْغِيبٍ أَوْ تَرْهِيبٍ أَغْمِضْ عَنْهُ، وَتَسَهَّلْ فِي رُوَاتِهِ. وَلَفْظُ ابْنِ مَهْدِيٍّ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ: (إِذَا رُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْأَحْكَامِ، شَدَّدْنَا فِي الْأَسَانِيدِ وَانْتَقَدْنَا فِي الرِّجَالِ، وَإِذَا رُوِّينَا فِي الْفَضَائِلِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، سَهَّلْنَا فِي الْأَسَانِيدِ وَتَسَامَحْنَا فِي الرِّجَالِ). وَلَفْظُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ عَنْهُ: (الْأَحَادِيثُ الرَّقَائِقُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُتَسَاهَلَ فِيهَا حَتَّى يَجِيءَ شَيْءٌ فِيهِ حُكْمٌ). وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ عَنْهُ: (ابْنُ إِسْحَاقَ رَجُلٌ تُكْتَبُ عَنْهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ- يَعْنِي: الْمَغَازِي- وَنَحْوَهَا، وَإِذَا جَاءَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ أَرَدْنَا قَوْمًا هَكَذَا، وَقَبَضَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ الْأَرْبَعَ). لَكِنَّهُ احْتَجَّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالضَّعِيفِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَابِ غَيْرُهُ، وَتَبِعَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَدَّمَاهُ عَلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، وَيُقَالُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا ذَلِكَ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ كَمَا سَلَفَ كُلُّ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْحَسَنِ. وَكَذَا إِذَا تَلَقَّتِ الْأُمَّةُ الضَّعِيفَ بِالْقَبُولِ يُعْمَلُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، حَتَّى إِنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُتَوَاتِرِ فِي أَنَّهُ يَنْسَخُ الْمَقْطُوعَ بِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي حَدِيثِ: “ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ “: إِنَّهُ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ، وَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى جَعَلُوهُ نَاسِخًا لِآيَةِ الْوَصِيَّةِ لَهُ. أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ احْتِيَاطٍ كَمَا إِذَا وَرَدَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِكَرَاهَةِ بَعْضِ الْبُيُوعِ أَوِ الْأَنْكِحَةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ- كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ- أَنْ يُتَنَزَّهَ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ، وَمَنَعَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ الْعَمَلَ بِالضَّعِيفِ مُطْلَقًا. وَلَكِنْ قَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي عِدَّةٍ مِنْ تَصَانِيفِهِ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ وَنَحْوِهَا خَاصَّةً. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَفَادَ شَيْخُنَا أَنَّ مَحَلَّ الْأَخِيرِ مِنْهَا حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الضَّعْفُ شَدِيدًا، وَكَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ أَصْلٍ عَامٍّ؛ حَيْثُ لَمْ يَقُمْ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ دَلِيلٌ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ، وَلَمْ يُعْتَقَدْ عِنْدَ الْعَمَلِ بِهِ ثُبُوتُهُ، كَمَا بَسَطْتُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
|